أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ بِأَيِّ وُجُوهٍ النَّسْخِ كَانَ نَقْلًا مِنْ فَرْضٍ إلَى غَيْرِهِ، أَوْ مِنْ وُجُوبٍ إلَى إسْقَاطٍ أَوْ مِنْ حَظْرٍ إلَى إبَاحَةٍ أَوْ عَكْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا نُقِلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى إسْقَاطٍ، لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ الِامْتِنَانُ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: ٦٦] فَامْتَنَّ بِالتَّخْفِيفِ بَعْدَ التَّغْلِيظِ، فَهَذَا جَائِزٌ، فَأَمَّا إذَا نُقِلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى مِثْلِهِ أَوْ أَغْلَظَ مِنْهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَ الِامْتِنَانِ وَلَا الْمَقْصِدَ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ إلَّا فِعْلَ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَالنَّقْلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى مِثْلِهِ لَا مَقْصِدَ فِيهِ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلًا، إلَّا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مَقْصِدٌ مُعْتَزِلِيٌّ مَعْرُوفٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا حَمَلَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ مُرَاعَاةُ مَذْهَبِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، فَأَرَادُوا تَصْحِيحَ مَذْهَبِهِمْ. فَسَمَّوْا مَا وَقَعَ التَّأْخِيرُ فِيهِ نَسْخًا، لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، فَعَدَلُوا عَنْ تَسْمِيَتِهِ بَيَانًا إلَى النَّسْخِ، لِذَلِكَ قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْقَاشَانِيُّ. وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَوْلَى ثَمَّ، وَأَشْبَهَ بِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ سَاقِطٌ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا نُقِلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى إسْقَاطٍ. وَالِامْتِنَانُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ثَابِتٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَهُوَ نَفْيُ جَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهَا كُلُّهَا نَسْخٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَمْرِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ أُتِيَ فِيهَا بِالْإِضْجَاعِ، وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ، وَالطَّعْنِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ النَّجْوَى، فَقَدْ فَعَلَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَقِصَّةُ الصَّلَاةِ لَا نُسَمِّيهِ نَسْخًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْأَمْرُ إلَّا بِخَمْسٍ. وَأَمَّا قِصَّةُ الصُّلْحِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ الصُّلْحَ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَرَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّجَالَ، وَمَنَعَ مِنْ رَدِّ النِّسَاءِ، وَأَعْطَوْا الْغَرَضَ مِنْهُ، فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ بَعْدَ الْفِعْلِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ وُقُوعَ النَّسْخِ بَعْدَ أَنْ يُفْعَلَ بَعْضُهُ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute