مَحَلُّ وِفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. لَكِنَّ الْقَاضِيَ فِي " التَّقْرِيبِ " صَرَّحَ بِجَرَيَانِ خِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: لَا يَسْتَحِيلُ عِنْدَنَا أَنْ يُنْسَخَ الْفِعْلُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ الَّذِي وَقَّتَهُ بِهِ، لَا عَلَى أَنْ يُقَالَ لِلْمُكَلَّفِ: لَا تَفْعَلُهُ فِي الْوَقْتِ الْمَاضِي الَّذِي كَانَ قَدْ وُقِّتَ بِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ النَّسْخُ لَهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَمَعَ فِعْلِهِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ، بِأَنْ تُعَادَ الْقُدْرَةُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ، ثُمَّ يُؤْمَرُ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ يَفْعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِيمَا بَعْدُ إذَا عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ الَّذِي وُقِّتَ لَهُ ثَانِيًا: لَا تَفْعَلْهُ فَقَدْ نَهَيْنَاك عَنْهُ هَذَا جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَقَبْلَ إيقَاعِهِ، وَمُنِعَ إيقَاعُهُ فِي وَقْتِهِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ إعَادَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يُنْكِرُونَهُ، وَعَلَى إعَادَةِ الْبَاقِي مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ الْبَاقِي، فَلِذَلِكَ أَحَالُوا نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ تَقَضِّي وَقْتِهِ، إمَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ، أَوْ لِاسْتِحَالَةِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا. وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ فَلَمْ يَعْرِفْ مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَحْذَرْ الْفَقِيهُ السَّلِيمُ مِنْ بِدْعَتِهِمْ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ تَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ بِالنَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْأُصُولِ: إنَّمَا قُلْنَا: نُسِخَ الْحُكْمُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَلَمْ نَقُلْ: قَبْلَ فِعْلِهِ، لِأَنَّ الْمُخَالِفَ يَقُولُ: يَجُوزُ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَهُوَ نَسْخُ الْفِعْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَمَا بَعْدَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّسْخَ إذَا وَرَدَ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إيجَابُ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ، وَكُلُّ النَّسْخِ عِنْدَنَا هَكَذَا، لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلزَّمَانِ، وَبَيَانٌ لِمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ، كَالتَّخْصِيصِ فِي الْأَعْيَانِ. وَلَا نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ نَسَخَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا فِعْلَهُ، وَأَرَادَ إيجَابَهُ، لِاسْتِلْزَامِهِ الْبَدَاءَ، وَهُوَ مُحَالٌ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute