للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: وَغَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي تَوْجِيهِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَكَانَ اجْتِهَادُهُ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ قَطْعًا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ الرَّسُولُ بِاجْتِهَادِهِ مَا يُخَالِفُ نَصَّ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنِدٍ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَلُوحَ لَهُ مِنْ وَضْعِ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْكِتَابِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى النَّسْخِ أَصْلًا.

الثَّانِي: لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: ١٠٦] يَحْتَمِلُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَجْزَلُ فِي الْمَثُوبَةِ وَأَصْلَحُ فِي الدَّارَيْنِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: ١٠٦] . عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا تَفَرَّدَ هُوَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ. فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: ١٠٦] مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَصَالِحِ أَوْ إنْشَائِهَا أَوْ إزَالَتِهَا عَنْ الصُّدُورِ. وَقَدْ قِيلَ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: ١٠٦] بَعْدَ النَّسْخِ إذَا قَدَّمَ النَّسْخَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ مِنْهَا لَكُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلِ بْنُ سُهَيْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ كِتَابًا فِي نُصْرَةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَتِلْمِيذُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَا مِنْ النَّاصِرِينَ لِهَذَا الرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ " النَّاسِخِ "، حَكَى نَصَّ الشَّافِعِيِّ بِالْمَنْعِ وَقَرَّرَهُ. وَقَالَ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: كُنْت أَتَأَوَّلُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدِيمًا فِي الْمَنْعِ، أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجَوِّزْهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ، حَتَّى تَدَبَّرْت هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: ١٠٦] فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا يَكُونُ مَعْنَى خَيْرٍ مِنْهَا: حُكْمًا لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>