الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِسُنَّتِهِ الْأَخِيرَةِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ الْحُكْمَ بِالْآيَةِ فَفَعَلَ هَذِهِ السُّنَّةَ، لِأَنَّ الرَّافِعَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ هِيَ الْمُثْبِتَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ مَا سَنَّهُ، وَبَيَانًا لِلْأُمَّةِ، أَلَا تَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ زَالَ بِمَا أَمَرَ، وَصَارَ هُوَ الْفَرْضَ بِفِعْلِهِ امْتِثَالًا لِلْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، وَبَيَانًا لِلْأُمَّةِ أَنَّهُ قَدْ أُزِيلَ مَا سَنَّهُ، فَيُعْلِمُ بِسُنَّتِهِ الثَّانِيَةِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَزَالَ سُنَّتَهُ الْأُولَى لِمَا وَصَفْت مِنْ احْتِمَالِ تَرْتِيبِ الْآيَةِ عَلَى السُّنَّةِ، لِئَلَّا يُشْكِلَ ذَلِكَ فِي التَّرْتِيبِ وَالْفَرْضِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ فِيمَا عَقَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُرَيْشٍ بِنَقْضِ اللَّهِ الصُّلْحَ مِنْ رَدِّ الْمُؤْمِنَاتِ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي رَفَعَ السُّنَّةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": أَمَّا وُرُودُ آيَةٍ عَلَى مُنَاقَضَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ فَجَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ النَّاسِخُ لِخَبَرِهِ دُونَ الْآيَةِ. قَالَ: وَهَذَا كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي كَوْنِ الْآيَةِ نَاسِخَةً لِلْخَبَرِ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ الْمَصِيرُ إلَى اسْتِحَالَتِهِ، وَلَعَلَّهُ عَنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْسَخُ، وَلَا يُبَيِّنُ، وَإِنَّمَا النَّاسِخُ اللَّهُ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِتَجْوِيزِ وُرُودِ الْقُرْآنِ بِلَفْظٍ يَنْفِي الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالسُّنَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّسْخُ بِهِ حَتَّى يُحْدِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْقُرْآنِ سُنَّةً لَهُ أُخْرَى يُبَيِّنُ بِهَا انْتِفَاءَ حُكْمِ السُّنَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَ ظَاهِرُهُ يَنْفِي حُكْمَ السُّنَّةِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى رَفْعِهِ لَهَا، وَلَوْ كَانَ مَا هَذَا حُكْمُهُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ فِي رَفْعِ حُكْمِ السُّنَّةِ لَفْظُ سُنَّةٍ أُخْرَى يَنْفِي حُكْمَهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ، فَيَظُنُّ سَامِعٌ لَفْظَ الْآيَةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ رَفْعُ حُكْمِ السُّنَّةِ؟ قُلْنَا: إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظُ غَيْرَ مَا يُضَادُّ حُكْمَ السُّنَّةِ ارْتَفَعَ التَّوَهُّمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute