وَجَعَلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي زَمَانِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ بِدُونِ قَوْلِهِ لَاغٍ؛ وَأَمَّا مَعَهُ فَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ، وَقَوْلُ الْغَيْرِ لَاغٍ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا بَعْدَ زَمَانِهِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِتَعَذُّرِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَلَا بِإِجْمَاعٍ آخَرَ، لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ إنْ كَانَ لَا عَنْ دَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ. وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ فَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ، فَكَانَ خَطَأً، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ خَطَأً، فَاسْتَحَالَ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَتَعَذَّرَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَوْ انْتَسَخَ لَكَانَ انْتِسَاخُهُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ تَصَوُّرِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي حَيَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذَا جَوَّزْنَا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَانِهِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَعَلَّهُمْ اجْتَهَدُوا فِي مَسْأَلَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ " بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ حُكْمًا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ عَلَى عَهْدِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ إجْمَاعٌ وَقَعَ فِي زَمَانِهِ. قُلْنَا: يَجُوزُ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا الْإِجْمَاعَ بَعْدَهُ أَنْ يُنْسَخَ. وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْمَنْسُوخُ الدَّلِيلُ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، لَا حُكْمُهُ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ الْقَرَافِيُّ فِي " شَرْحِ التَّنْقِيحِ " هَذَا الْحُكْمَ، وَنَقَلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنِ بَرْهَانٍ جَوَازَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ. قَالَ: وَشَهَادَةُ الرَّسُولِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ مُتَنَاوِلَةٌ لِمَا فِي زَمَانِهِ وَمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute