وَإِنْ عَارَضَ قِيَاسًا آخَرَ، فَتِلْكَ الْمُعَارَضَةُ إنْ كَانَتْ بَيْنَ أَصْلِيِّ الْقِيَاسِ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّسْخُ قَطْعًا، إذْ هُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ النُّصُوصِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ إلَّا بِدَلِيلٍ تَوْقِيفِيٍّ، وَلَا حَظَّ لِلْقِيَاسِ فِيهِ أَصْلًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَرِدَ خَبَرٌ لِمَعْنًى، ثُمَّ يَرِدُ نَاسِخٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَيَرْتَفِعُ هُوَ وَدَلَالَتُهُ، كَمَا لَوْ حُرِّمَ بَيْعُ الْبُرِّ بِالْبُرِّ لِلْأَكْلِ، فَقِسْنَا كُلَّ مَأْكُولٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُحِلَّ الْبُرُّ بِالْبُرِّ، فَيَصِيرُ مَا قِسْنَاهُ عَلَيْهِ حَلَالًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَهُ مَا أَوْجَبَهُ فِي غَيْرِهَا، فَمَتَى أَزَالَ حُكْمَهَا بَطَلَ حُكْمُ مَا تَعَلَّقَ بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا نَسْخًا بِالْقِيَاسِ، إنَّمَا هُوَ نَسْخٌ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْمَنْصُوصِ. وَقَالَ: كَذَلِكَ مَا أَقَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَحْلِيلُ عَيْنِهِ، وَالْقِيَاسُ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ. انْتَهَى.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا بِكُلِّ دَلِيلٍ يَقَعُ بِهِ التَّخْصِيصُ. حَكَاهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي أَجْوِبَةِ " التَّحْصِيلِ ": لَوْ دَلَّ نَصٌّ عَلَى إبَاحَةِ النَّبِيذِ مَثَلًا كَمَا يَقُولُ: مَنْ يُبِيحُهُ، ثُمَّ دَلَّ نَصٌّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ إبَاحَةِ النَّبِيذِ، ثُمَّ قِسْنَا التَّحْرِيمَ فِي النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ، كَانَ الْقِيَاسُ الثَّانِي نَاسِخًا. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ: تَقَدُّمِ إبَاحَةِ النَّبِيذِ، وَكَوْنِ التَّحْرِيمِ فِي النَّبِيذِ بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْقِيَاسِ نَاسِخًا لِلنَّصِّ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ الْمُتَوَاتِرُ وَنَصُّ الْقُرْآنِ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ إنَّمَا يُنْسَخُ بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ فَقَطْ.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْجَلِيِّ، فَيَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، وَبَيْنَ الْخَفِيِّ فَلَا يَجُوزُ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ، إجْرَاءً لَهُ مُجْرَى التَّخْصِيصِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute