فَجَوَّزَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي " الْعُمَدِ ". وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ إلَّا وَقَدْ انْتَقَضَ الْغَرَضُ، لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لِلْأَبَوَيْنِ كَانَتْ إبَاحَةُ مَضَرَّتِهِمَا نَقْضًا لِلْغَرَضِ. وَفَصَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمَنْطُوقِ لَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ، كَإِكْرَامِ الْوَالِدِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَأْفِيفِهِ، فَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْفَحْوَى لَتَنَاقُضِ الْمَقْصُودِ. وَإِنْ احْتَمَلَتْ النَّقْضَ جَازَ، لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَالِ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ لِغَضَبِهِ، فَفَحْوَاهُ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ. فَإِذَا نَسَخَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا جَازَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ عِلَّةِ حِرْمَانِهِ إلَى عِلَّةِ مُوَاسَاتِهِ. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْجَوَازِ، فَفِي اسْتِتْبَاعِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخَ الْآخَرِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَسْخَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْآخَرِ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، لِتَلَازُمِهِمَا.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخُ الْآخَرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَسْخَ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْفَحْوَى، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ بِدُونِ مَتْبُوعِهِ، وَنَسْخُ الْمَفْهُومِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْأَصْلِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " الْمَذْهَبَ، وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ نَسْخَ الْمَنْصُوصِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمَفْهُومِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إذَا نُسِخَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِسَاخُ الْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ مَعَ فَقْدِ الْأَصْلِ. وَوَجَّهَ غَيْرُهُ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ مِنْ النَّصِّ، فَلَا يَكُونُ رَفْعُ الْأَصْلِ مُسْتَلْزِمًا لِرَفْعِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute