وَبِقَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: ٢] وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ثَمَّ أَلْفَاظًا أَبْقَاهَا الشَّارِعُ عَلَى مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ، وَلَكِنْ مَنْ قَالَهَا يُلْزَمُ بِأَمْرٍ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ كَذِبٌ، وَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ: زُورًا، وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ كَذَبَ هَذَا الْكَذِبَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَكَانَتْ " عَلَيَّ حَرَامٌ " بَاقٍ عَلَى مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ كَذِبٌ، وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ قَالَهُ عِنْدَنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَبِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ. فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَهُمَا لِإِحْدَاثِ مَا دَلَّا عَلَيْهِ، فَالْأَلْفَاظُ ثَلَاثَةٌ: نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، وَذَلِكَ خَبَرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنَحْوُ: بِعْتُ، وَذَلِكَ إنْشَاءٌ مَحْضٌ، وَنَحْوُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَذَلِكَ خَبَرٌ. وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَلَا يَقُومُ الْإِقْرَارُ مَقَامَهُ، نَعَمْ يُؤَاخَذُ ظَاهِرًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ عَلَى صِيغَتِهِ إنْشَاءً فِي صُوَرٍ: مِنْهَا إذَا أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إنْشَاءً حَتَّى يَحْرُمَ بِهِ بَاطِنًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ تَلْبِيسٌ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ، فَذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَهَذَا إحْدَاثٌ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَمِنْهَا حُكْمُ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي إنْ كَانَ فِي مَعْرِضِ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ فِي مَعْرِضِ الْحِكَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ، كَقَوْلِهِ: لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو كَذَا، وَفُلَانٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، بَلْ هُوَ كَغَيْرِهِ. ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ قَالَ بَعْدَهُ: أَرَدْتُ الْحُكْمَ فَيَتَّجِهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَعَدَمُ نَقْلِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّاهِدِ: أَشْهَدُ إنْشَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ التَّكْذِيبُ شَرْعًا، وَقِيلَ: إخْبَارٌ، وَقِيلَ: إنْشَاءٌ تَضَمَّنَ الْإِخْبَارَ عَمَّا فِي النَّفْسِ، وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute