قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْحَقُّ عِنْدَنَا فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عِلْمِيَّةٌ أَنَّا قَاطِعُونَ بِعَمَلِ السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَرَدَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الْقَطْعُ حَصَلَ لَنَا مِنْ تَتَبُّعِ الشَّرِيعَةِ، وَبُلُوغِ جُزَيْئَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَا عَدَا هَذِهِ الْفِرْقَةَ الْيَسِيرَةَ عَلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا. اهـ. وَلَنَا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ. الْأَوَّلُ: مَا تَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنْفَاذِ وُلَاتِهِ وَرُسُلِهِ آحَادًا إلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ؛ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ الدِّينَ، وَلِيُوقِفُوهُمْ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ طَالَعَ كُتُبَ السِّيَرِ ارْتَوَى بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَرُجُوعِهِمْ إلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ الْحَوَادِثِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَقْتَضِي دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَخْبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِكَذَا، حَصَلَ ظَنٌّ أَنَّهُ وُجِدَ الْأَمْرُ، وَأَنَّا لَوْ تَرَكْنَاهُ لَصِرْنَا إلَى الْعَذَابِ، وَبِهَذَا الدَّلِيلِ اسْتَدَلَّ ابْنُ سُرَيْجٍ وَمُتَابِعُوهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عَقْلًا. وَنَقُولُ: سَبَبُ الِاضْطِرَارِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ، أَمَّا فِي الشَّهَادَاتِ وَالْفَتْوَى وَالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ إلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَهَا، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِيُعَلِّمَهَا النَّاسَ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْعُوثٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، مُضْطَرٌّ إلَى تَبْلِيغِ النَّاسِ كُلِّهِمْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِمُشَافَهَةِ الْجَمِيعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَيِّرَ إلَى كُلِّ بُقْعَةٍ عَدَدًا مُتَوَاتِرًا، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّبْلِيغَ يَكُونُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute