وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ الْمَبْعُوثَ إلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِمَا يَقُولُهُ الرُّسُلُ، فَبَطَلَ فَائِدَتُهُمْ. هَذَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ عَنْهُ مِمَّا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ. أَمَّا مَا يُطْلَبُ فِيهِ الْيَقِينُ كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالظَّنُّ فِي ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَبْلِيغُ هَذِهِ إلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَنَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ بِأَنْ يُرْسَلَ فِيهَا الْآحَادُ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ يُشِيرُ فِي كَلَامِهِ إلَى الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ مِمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ فَطَانَةٌ، فَيَتَنَبَّهُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ إلَى ذَلِكَ الْبُرْهَانِ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ، وَمَنْ لَا فَطَانَةَ لَهُ فَقَدْ يَتَعَلَّمُ عَلَى الطُّولِ، وَقَدْ يُسَافِرُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَقْصِيَ بِهِ ذِهْنُهُ شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكَانَتْ كُلُّهَا عِلْمِيَّةً؟ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. أَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعَقْلِ، فَتَكْلِيفُ النَّاسِ الْوُقُوفَ عَلَى بَرَاهِينِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا يَشُقُّ جِدًّا، وَيَشْغَلُهُمْ عَنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي عِمَارَةِ الْبَلَدِ، فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الشَّارِعُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِالظَّنِّ. فَكَفَتْ فِيهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ، وَإِشَارَاتُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْيَقِينِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْإِيمَانُ فَيَتِمُّ بِذَلِكَ تَبْلِيغُهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ.
تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي الْعِبَارَةِ تَسَاهُلٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَبَرِ لَوْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ لَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُثْمِرُ عِلْمًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْعَمَلُ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، وَهَذَا سَهْلٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute