الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا اقْتَضَى تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ، لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُبَيِّنَهُ، إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الِالْتِبَاسِ، ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ لَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ خَبَرًا عَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَلَكِنْ قَدْ اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارُ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةَ لِرِوَايَتِهِمْ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ، فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ، فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ.
وَلِهَذَا قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ لَا تَقْدَحُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي ثُمَّ يُخَالِفُ، بَلْ تَجْرِي فِيمَنْ يَبْلُغُهُ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا وَقُلْنَا: إنَّمَا خَالَفَ؛ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِيَ فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّجَهُ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ إلَّا وَلَهَا الْحَدِيثُ أَوْ الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا قَدْحٌ فِي الْخَبَرِ، وَعُلِمَ بِضَعْفِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا، وَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ، فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ، أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا يُحْمَلُ بِخِلَافِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute