فَالْوَاجِبُ أَحَدُ الْخِصَالِ، وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ، وَتَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ لِلْوُجُودِ لَا لِلْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْجِهَةَ الشَّخْصِيَّةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبٌ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْمِئَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ حِقَاقٍ وَخَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَطَقَ بِالتَّخْيِيرِ، فَقَالَ: (فَإِذَا بَلَغَتْ مِئَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ. أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ) فَأَوْجَبَ أَحَدَهُمَا وَخَيَّرَ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: مُتَعَلَّقُ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخِصَالِ، وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ، وَمُتَعَلَّقُ التَّخْيِيرِ خُصُوصِيَّاتُ الْخِصَالِ وَلَا وُجُوبَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ ": لَا نَقُولُ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ حِصَّةٌ مِنْهُ يَصْدُقُ عَلَيْهَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ. وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَكُونُ مِنْ صُوَرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخْيِيرُ فِي الْوَاحِدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: يَجِبُ الْجَمِيعُ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَظَاهِرُهُ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، إذْ مَعْنَى وُجُوبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِفِعْلِهَا، وَمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ أَنْ يَبْرَأَ بِفِعْلِ أَيُّهَا شَاءَ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْجَمِيعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ فِعْلِ الْجَمِيعِ، أَوْ وُجُوبُ الْجَمِيعِ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْجَمْعِ بِمَعْنَى إنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا فَعَلَ هَذَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute