وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أَدِلَّةَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا شَكَّ فِي نَفْيِ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّنِّيَّةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا نُكَفِّرُ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ قُلْنَا قَطْعِيَّةٌ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُخْتَلِفُونَ فِي تَكْفِيرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يَكْفُرَ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ قَطْعِيَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَعُمُّ مَعْرِفَتُهُ كُلَّ أَحَدٍ بِخِلَافِ مَنْ جَحَدَ سَائِرَ الْمُتَوَاتِرَاتِ، وَالتَّوَقُّفُ عَنْ التَّكْفِيرِ أَوْلَى مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا جَاءَتْ عَلَيْهِ» . اهـ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَكْفِيرِ مُخَالِفِهِ كَسَائِرِ الظَّنِّيَّاتِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ دَلِيلَهُ قَطْعِيٌّ، فَالْحُكْمُ الْمُخَالِفُ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا. فَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَا يُتَوَجَّهُ الْخِلَافُ فِيمَا تَوَاتَرَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالنَّقْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا مُوجِبًا لِلْكُفْرِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ الْخِلَافُ فِيمَا حَصَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ، أَعْنِي أَنَّهُ ثَبَتَ وُجُودُ الْإِجْمَاعِ بِهِ إذَا لَمْ يَنْقُلْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ الْحُكْمَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ تَارَةً يَصْحَبُهُ التَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَتَارَةً لَا. فَالْأَوَّلُ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَكْفِيرِهِ، وَالثَّانِي قَدْ يُخْتَلَفُ فِيهِ. فَلَا يُشْتَرَطُ فِي النَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالْقَطْعِ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ، كَوُجُوبِ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ. فَتَنَبَّهْ لِهَذَا، فَقَدْ غَلَطَ فِيهِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ، وَيَعْتَقِدُ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى الْفَلْسَفَةِ، حَيْثُ حَكَمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute