وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ نَفْسِهِ: وَقِيلَ: مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاصِرَةً. وَرَجَّحَ الْعَبْدَرِيّ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْأَصْلَ مَحْكُومٌ فِيهِ حَتَّى يُفْهَمَ الْحُكْمُ، وَبِالْعَكْسِ فَإِنْ سَمَّى مُسَمَّى الْخَمْرِ وَحْدَهَا أَصْلًا بِمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الْمَحَلُّ الَّذِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَحَالِّ فَيَجُوزُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: الْأَصْلُ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فَرْعٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِهِ عَلَيْهِ وَالْعِلَّةُ بِالْعَكْسِ فَرْعٌ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ لِأَنَّا إنَّمَا نُعَلِّلُ الْحُكْمَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَصْلٍ فِي مَحَلٍّ لِأَنَّا نَعْرِفُ الْعِلَّةَ فِيهِ ثُمَّ نُفَرِّعُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا.
قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: وَقَوْلُهُ: الْحُكْمُ أَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ ذَهَابٌ عَظِيمٌ عَنْ مَقْصُودِ الْبَحْثِ إذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفَ مَا سُمِّيَ أَصْلًا بِاعْتِبَارٍ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بَيَانُ الْأَصْلِ الَّذِي يُقَابِلُ الْفَرْعَ فِي الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهَذَا تَهْوِيلٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى الِاصْطِلَاحِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ، أَوْ إلَى اللُّغَةِ فَهُوَ يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَلَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْخِلَافِ إلَّا الصُّورَةُ. وَقِيلَ: بَلْ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ " بِالْأَصْلِ "، وَهُوَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْغَالِبِ، وَتَارَةً عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَعَلَى إرَادَةِ الْبَعِيدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِمْ: خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ مَحَلٍّ وَإِيجَابُ الطَّهَارَةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى إرَادَةِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْجِيهِ الِاسْتِشْعَارِ عَلَى الْأَصْلِ حَتَّى يَصِحَّ الْكَلَامُ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: يُطْلَقُ الْأَصْلُ عَلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَلَى مَا يُعْرَفُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، كَقَوْلِنَا: تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ أَصْلٌ، وَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْخَمْرُ أَوْ النَّصُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute