وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ عِلِّيَّةِ الْمَدَارِ لِلدَّائِرِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدَارُ مَقْطُوعًا بِعَدَمِ عِلِّيَّتِهِ، كَالرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ لِلْخَمْرِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدَارُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الدَّائِرِ، بِحَيْثُ أَنْ يُقَالَ: وُجِدَ الدَّائِرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ دَوَرَانُ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَا دَوَرَانُ الْوَصْفِ مَعَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَضَايِفَيْنِ لَيْسَ مُقَدَّمًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُقْطَعَ بِوُجُودِ مُزَاحِمٍ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَدَارِ عِلَّةً إلْغَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّ أَجْزَاءَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُولُ كَمَا دَارَ مَعَ الْعِلَّةِ دَارَ مَعَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا لَكِنَّ الْحُكْمَ بِأَيِّ جُزْءٍ كَانَ يُوجِبُ إلْغَاءَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، أَوْ إلْغَاءَ الْمَجْمُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُوجَدُ لِكُلِّ جُزْءٍ مُزَاحِمٌ يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلِّيَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجْمُوعِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً لَيْسَ بِمُوجِبٍ إلْغَاءَ الْجُزْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ اعْتِبَارِ الثَّانِي، بَلْ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ فِي التَّأْثِيرِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فَشَرَطُوا شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ مُنَاسِبًا كَانَتْ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً مِنْ جِهَةِ الْمُنَاسَبَةِ، صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَإِلْكِيَا وَابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُمْ. قُلْت: وَأَمَّا مَنْ يَدَّعِي الْقَطْعَ فِيهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ ظُهُورَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِالدَّوَرَانِ بِمُجَرَّدِهِ، فَإِذَا انْضَمَّ الْمُنَاسَبَةُ ارْتَقَى إلَى الْقَطْعِ. ثُمَّ قَالَ إلْكِيَا: وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ إلَّا إذَا كَانَتْ اجْتِمَاعَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي مَقْصُودٍ خَاصٍّ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ إذَا تَبَاعَدَ مَا حَدُّهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَارَةُ الْوَاحِدَةُ جَارِيَةً فِيهَا عَلَى نَسَقِ الْإِطْرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي الطَّهَارَةِ: إنَّهَا وَظِيفَةٌ تُشَطَّرُ فِي وَقْتٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ، كَالصَّلَاةِ، فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ انْعِكَاسُهُ، وَقَدْ تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ بَعْضُ الْأَمَارَاتِ فَإِنَّهَا مَجْرَى الْحُدُودِ الْعَقْلِيَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute