بِأَنَّ الشُّهُودَ مَنْصُوصٌ عَلَى عَدَالَتِهِمْ فَكُفِينَا مَئُونَةَ الِاجْتِهَادِ، وَالْأَخْبَارُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالْأَوْلَى تَرْجِيحُ الْأَكْثَرِ، لِأَنَّهُمْ عَنْ الْخَطَأِ أَبْعَدُ، قَالَ: وَذَهَبَ فِي الْقَدِيمِ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَشَبَّهَ بِالشَّهَادَاتِ.
قُلْتُ: وَعَكَسَ ابْنُ كَجٍّ وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابَيْهِمَا هَذَا النَّقْلَ فَقَالَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَدِيمِ: يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ رُوَاةً، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْأَخْبَارِ إنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِ الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَلُ الْغَلَطُ وَالْكَثْرَةُ تَدْفَعُ الْغَلَطَ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا جَمِيعًا فِي لُزُومِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَا فَقَدْ اسْتَوَيَا وَيَطْلُبُ دَلَالَةً سِوَاهُمَا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّهَادَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ سُلَيْمٌ: أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا أَرَاهُ قَطْعِيًّا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ لَمْ يُمْكِنْ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ قُطِعَ بِاتِّبَاعِ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ، وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ تَعَارَضَ لَهُمْ خَبَرَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُعَطِّلُوا الْوَاقِعَةَ، بَلْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ هَذَا. قَالَ: وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ وَخَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ كَثُرَتْ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ النَّاظِرِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيٌ رَابِعٌ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَرُبَّ عَدْلٍ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عَدْلَيْنِ، لِشِدَّةِ تَيَقُّظِهِ وَضَبْطِهِ. فَلَمَّا كَثُرَ الْعَدَدُ وَلَمْ يَقْوَ الظَّنُّ بِصِدْقِهِمْ كَانَ خَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَالرَّاجِحُ هُوَ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: بَلْ هُوَ أَقْوَى الْمُرَجَّحَاتِ، فَإِنَّ الظَّنَّ يَتَأَكَّدُ عَنْ تَرَادُفِ الرِّوَايَاتِ. وَلِهَذَا يَقْوَى الظَّنُّ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ مُتَوَاتِرًا. .
.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute