وَ (الثَّانِي) يَجُوزُ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ. وَعَلَى هَذَا فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ، لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إذَا قَدِمَ الرَّسُولُ أَنْ يَسْأَلَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاصِلًا فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَغَائِبًا عَنْ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ رَجَعَ فِي اجْتِهَادِهِ إلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، لِأَنَّ الْعَجْلَانِيُّ سَأَلَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ عَنْ قَذْفِ امْرَأَتِهِ بِمَا سَمَّاهُ فَقَالَ لَهُ: حَدٌّ فِي ظَهْرِك إنْ لَمْ تَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ فَتَوَقَّفَ فِيهِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ أَجَابَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمُجْتَهِدُ إلَى أَصْلٍ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ، قَالَ صَاحِبُ " الْحَاوِي ": وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفٌ فَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوَامِرِ بِهَا، وَالْمُعَامَلَاتُ تَخْفِيفٌ فَتُعْتَبَرُ النَّوَاهِي عَنْهَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ، كَمَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَصِحَّ اجْتِهَادُهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَيُقِرَّهُ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ صَحِيحًا، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَلَبَ الْقَتِيلِ وَقَدْ أَخَذَهُ غَيْرُ قَاتِلِهِ. قُلْت: وَفِي مَعْنَى أَمْرِهِ بِهِ الْمُشَاوَرَةُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: ١٥٩] [وَقَدْ شَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِ الْأَسْرَى وَغَيْرِهِ] . وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ بِحَضْرَتِهِ لِيَعْرِضُوا عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ، فَإِنْ صَحَّ قَبِلَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ. كَبَحْثِ الطَّالِبِ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ.
وَقَدْ اجْتَهَدَ مُعَاذٌ فِي تَرْكِهِ قَضَاءَ الْغَائِبِ أَوَّلًا، ثُمَّ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ وَرَضِيَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: (قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ) وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ مَحْوِ اسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ اجْتِهَادًا عَظِيمًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ يَجُوزُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute