وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ. وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَيَكُونُ مُصِيبًا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ. وَمَعْنَى الْأَشْبَهِ أَنَّ اللَّهَ لَوْ أَنْزَلَ حُكْمًا فِي الْحَادِثَةِ لَكَانَ هُوَ فَيَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْأَشْبَهِ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ عَنْهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عَلَى الْحُكْمَيْنِ مَعًا دَلِيلًا، إلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَغَمُضَتْ تَحَيَّرَ. وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ [إلَى] أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا لِلْمَطْلُوبِ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ، كَالْقَوْلِ الثَّانِي لِلْمُعْتَزِلَةِ.
وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَاَلَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ فُورَكٍ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَأَنَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ طَلَبَهُ بِالدَّلِيلِ.
فَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ، لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَوَّلِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ لِأَبِي الْحُسَيْنِ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ حُكْمٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِيهَا، وَاخْتَارَ هَذَا وَنَصَرَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، وَلَا دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلْمُعْتَزِلَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ: - فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ، وَاَلَّذِي يُؤَدِّي إلَى غَيْرِهِ شُبْهَةٌ وَلَيْسَ بِالدَّلِيلِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمُجْتَهِدِينَ إصَابَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي نَصَّبَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مَعْذُورًا عَلَى خَطَئِهِ مُثَابًا عَلَى قَصْدِهِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute