وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْغَزَالِيَّ يَقُولَانِ: لَا تَقْلِيدَ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَيَقُولُ: لَا تَقْلِيدَ فِي رُجُوعِ الْمَرْءِ إلَى قَوْلِ الْعَامِّيِّ، وَالْمُجْتَهِدِ إلَى قَوْلِ مِثْلِهِ، يَعْنِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِيَخْرُجَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا جَوَّزَهُ قَوْمٌ. وَاعْتَرَضَ الْآمِدِيُّ - تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ - بِأَنَّهُ لَوْ سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى الْإِجْمَاعِ وَالْمُفْتِي وَالشُّهُودِ تَقْلِيدًا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي اللَّفْظِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ تَبِعَ الْآمِدِيَّ، وَكَذَا ابْنُ الصَّلَاحِ صَرَّحَ بِمَا يُوَافِقُهُمْ حُكْمًا. غَيْرَ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ تَعْرِيفِهِمْ لِلتَّقْلِيدِ. وَمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُفْتِي لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ مَعَ دَعْوَاهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْفُتْيَا " مِنْ مُنَازَعَةِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ فَعَجَبٌ، إذْ كَيْفَ يُقْضَى عَلَى أَبِي عَلِيٍّ - وَهُوَ الْحَبْرُ - بِالتَّقْلِيدِ، وَلَا يُقْضَى بِذَلِكَ عَلَى الْعَامِّيِّ الصِّرْفِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ وَقْتَ التَّعْرِيفِ مَعَ الْغَزَالِيِّ، وَعِنْدَ الِانْفِصَالِ جَرَى عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدٌ. وَقَدْ يَأْخُذُ الْمُجْتَهِدُ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ، وَلَكِنْ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ أَخْذًا مَجَازٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ مِنْهُ لِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ نَظَرُهُ، لَا لِكَوْنِ ذَلِكَ قَالَهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ - إنْ سُمِّيَ - لِسَبْقِهِ إلَيْهِ كَمَا نَقُولُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ مَالِكٍ، أَوْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسَائِلَ سَبَقَاهُ إلَى الْقَوْلِ بِهَا. وَمَنْ تَبَحَّرَ فِي مَذْهَبِ إمَامٍ وَلَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَأَفْتَى عَلَى مَذْهَبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ كَانَ الْمُسْتَفْتِي مُقَلِّدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ، لَا لِلْمُفْتِي. حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ عَنْ شَيْخِهِ الْقَفَّالِ. ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي ". وَجَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْغِيَاثِيِّ ". وَقَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُ الْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ، إلَّا أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ الْهَرَوِيَّ أَحَدُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمُتَبَحِّرَ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يَنْبَغِي تَخْرِيجُ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَا يُخَرِّجُهُ أَصْحَابُنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute