للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ - قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ - إلَى أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لَهُ فِيمَا يَأْخُذُهُ، لِأَنَّا إنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ بِلَا حُجَّةٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، إذْ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَأْخَذِهِ فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي قَوْلِ الْمُفْتِي أَيْضًا. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَلَعَلَّهُ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُجَّةُ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ قَبْلُ، وَالْإِجْمَاعُ سَبَقَ الْقَاضِي. عَلَى أَنَّ الْعَوَامَّ يُقَلِّدُونَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا تَقْلِيدٌ. وَمَنْ نَظَرَ كُتُبَ الْعُلَمَاءِ وَالْخِلَافِيِّينَ وَجَدَهَا طَافِحَةً بِجَعْلِ الْعَوَامّ مُقَلِّدِينَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى " بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ ظَانٌّ صِدْقَهُ، وَالظَّنُّ مَعْلُومٌ، وَوُجُوبُ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ، وَهَذَا عِلْمٌ قَاطِعٌ، وَالتَّقْلِيدُ جَهْلٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَفَعْتُمْ التَّقْلِيدَ مِنْ الْبَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَقْلِيدَ أَحَدٍ سِوَى الرَّسُولِ، فَقَدْ أَثْبَتَ تَقْلِيدًا. قُلْنَا: قَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ إلَّا مَا اسْتَثْنَى، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الِاسْتِفْتَاءَ، وَقَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَشَهَادَةَ الْعُدُولِ تَقْلِيدًا. نَعَمْ، يَجُوزُ تَسْمِيَةُ قَوْلِ الرَّسُولِ تَقْلِيدًا تَوَسُّعًا وَاسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ جُمْلَةً فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَكَانَ تَصْدِيقًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ خَاصَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ تَقْلِيدًا مَجَازًا. انْتَهَى. وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي، وَلَا يُوَافِقُ عَلَى أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، وَالْقَاضِي إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ. وَلَمْ يَقْتَصِرْ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى مَا فَعَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ بَلْ زَادَا: لَوْ سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى مَنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ تَقْلِيدًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ. قُلْت: وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " أَيْضًا. وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى قَوْلِنَا. أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَالْآمِدِيَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ فَلَا تَنْبَغِي هَذِهِ التَّسْمِيَةُ، لِخُرُوجِهَا عَنْ وَضْعِ اللِّسَانِ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّسُولِ مُقَلَّدًا، وَإِذَا عُرِفَتْ الْمَدَارِكُ هَانَتْ الْمَسَالِكُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>