للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْت: وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ فَأَحْسَنَ فِيهَا الْجَوَابَ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ مَا مَعْنَاهُ: مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا أَدْرَكَهُ عُقُولُنَا. رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ ".

وَمَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنْ لِغَيْرِ هَذَا الْمَأْخَذِ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذْهَبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا مِنْ التَّقْلِيدِ: مِنْ قُوَّةِ عِبَارَاتِهِمْ وَاسْتِصْعَابِهَا عَلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ. وَمِنْهَا: احْتِمَالُ رُجُوعِ الصَّحَابِيِّ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، كَمَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ قَدْ انْعَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ. - وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ إسْنَادُ ذَلِكَ إلَى الصَّحَابَةِ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَذَاهِبِ الْمُصَنِّفِينَ فَإِنَّهَا مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِنَقْلِهَا عَنْ الْأَئِمَّةِ، فَلِهَذِهِ الْغَوَائِلِ حَجَرْنَا عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ. ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ غَائِلَةٌ هَائِلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ هِيَ الْوَاقِعَةُ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الصَّحَابِيُّ وَيَكُونُ غَلَطًا، لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ عَلَى الْوَقَائِعِ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا لِلْغَلَطِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِهِ وَظَوَاهِرِهِ. إمَّا لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً، فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ. وَأَمَّا ابْنُ الصَّلَاحِ فَجَزَمَ فِي كِتَابِ الْفُتْيَا " بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَزَادَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ التَّابِعِينَ أَيْضًا وَلَا مَنْ لَمْ يُدَوَّنْ مَذْهَبُهُ، وَإِنَّمَا يُقَلِّدُ الَّذِينَ دُوِّنَتْ مَذَاهِبُهُمْ وَانْتَشَرَتْ حَتَّى ظَهَرَ مِنْهَا تَقْيِيدُ مُطْلَقِهَا وَتَخْصِيصُ عَامِّهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ نُقِلَتْ عَنْهُمْ الْفَتَاوَى مُجَرَّدَةً، فَلَعَلَّ لَهَا مُكَمِّلًا أَوْ مُقَيِّدًا أَوْ مُخَصِّصًا، أَوْ أُنِيطَ كَلَامُ قَائِلِهِ، فَامْتِنَاعُ التَّقْلِيدِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>