إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَقُولُ: " مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَا، وَلَكِنْ أَقُولُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ "، لِأَنَّهُ جَاءَ لِيَعْلَمَ وَيَسْتَفْتِيَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ أُعَرِّفَهُ بِأَنِّي أُفْتِي بِغَيْرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ خِلَافَهُ، وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَعَانِيهِ فَيَكُونُ حَاكِيًا مَذْهَبَ الْغَيْرِ، وَمَنْ حَكَى مَذْهَبَ الْغَيْرِ - وَالْغَيْرُ مَيِّتٌ - لَا يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا وَأَخْبَرَهُ عَنْهُ بِفَتْوَاهُ أَوْ مَذْهَبِهِ فِي زَمَانٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَهُ وَيَقْبَلَهُ، كَمَا أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُفْتِي يَتَغَيَّرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مَضَتْ لِعَامٍّ مِثْلِهِ. فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ خِلَافُهُ لَا يَمُوتُ بِمَوْتِهِ فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ مَذْهَبِهِ؟ قُلْنَا: كَمَا زَعَمْتُمْ، لَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يُقَلِّدْهُ قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا قَالَهُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ فَتْوَاهُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ لَجَازَ لِلْعَامِّيِّ الَّذِي جَمَعَ فَتَاوَى الْمُفْتِينَ أَنْ يُفْتِيَ. وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ. وَلَجَازَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مُقَلِّدُ صَاحِبِ الْمَقَالَةِ. وَلَكِنْ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذَا.
أَمَّا إذَا أَفْتَى بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِيهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُفْتِي أَحْيَانَا بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانَ مُتَبَحِّرًا، لِأَنَّهُ حَكَى أَنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ كَانُوا يَأْتُونَهُ بِمَسَائِلَ يَسْأَلُونَهُ إخْرَاجَهَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فَيَسْتَخْرِجُهَا عَلَى أَصْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ فِي مَذْهَبِ نَفْسِهِ لَا يَعْرِفُ إلَّا يَسِيرًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ. قَالَ: وَالْعُلُومُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا - الْفِقْهُ: وَهُوَ فَنٌّ عَلَى حِدَةٍ، فَمَنْ بَلَغَ فِيهِ غَايَةَ مَا وَصَفْنَاهُ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِهِ لِيَصِحَّ إيمَانُهُ. وَثَانِيهَا - عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ: وَمَا زَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ يَقُولُ: هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute