الْعَمَلِ أَيْضًا، وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ؟ ، لَكِنَّ وَجْهَ مَا قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ، حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ. وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كَانَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ، كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ فِي الْوِتْرِ، وَمِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَفْعَلَ، كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ خَارِجٌ عَنْ الْعَمَلِ وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ، فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ فَقَلَّدَ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ.
وَلَيْسَ فِي الْعَامِّيِّ إلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ. نَعَمْ، الْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهٍّ. وَالثَّانِي - ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخْصِ وَغَيْرِهَا. وَرُبَّمَا قِيلَ: اتِّبَاعُ الرُّخْصِ مَحْبُوبٌ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» . وَيُشْبِهُ جَعْلَهُ فِي غَيْرِ الْمُتَتَبِّعِ مِنْ الِانْتِقَالِ قَطْعًا، خَشْيَةَ الِانْحِلَالِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ فَاوَضَهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ وَنَحْنُ نَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَالْكُلُّ دِينُ اللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ دُعَاةٌ إلَى اللَّهِ، قَالَ: حَتَّى كَانَ هَذَا الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ غَلَبَةِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا جَاءَ يَسْتَفْتِيهِ - مَثَلًا - فِي حِنْثٍ يَنْظُرُ فِي وَاقِعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ يَحْنَثُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَحْنَثُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ قَالَ لِي: أَفْتِهِ أَنْتَ.
يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّسْهِيلَ عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَرَعًا. كَانَ يَنْظُرُ أَيْضًا فِي فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ التَّقَيُّدِ، فَيَرَى أَنَّهُ إنْ شَدَّدَ عَلَى الْعَامِّيّ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ، فَيُوَسِّعُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا مُسْتَدْرَكَ وَلَا تَقْلِيدَ، بَلْ جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاجْتِرَاءٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ. قُلْت: كَمَا اتَّفَقَ لِمَنْ سَأَلَ التَّوْبَةَ وَقَدْ قَتَلَ تِسْعًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute