كتاب البحر المحيط في أصول الفقه

المكلف - مسألة المعدوم الذي تعلق العلم بوجوده مأمور - ج: 2 - ص: 99

بِحُدُوثِهِ: إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِدُونِ الْمُخَاطَبِ عَبَثٌ، فَاضْطَرَبَ الْأَصْحَابُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فِرْقَتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: قَالَتْ: إنَّ الْمَعْدُومَ فِي الْأَزَلِ مَأْمُورٌ عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْأَزَلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُجُودِ، وَاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ لَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ حَالَ عَدَمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِتَقْدِيرِ الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ، ثُمَّ إنَّ الشَّخْصَ الَّذِي سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ.

وَهَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إلَّا الْأَشَاعِرَةُ هَكَذَا نَقَلُوهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ مِنْهُمْ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ.

قَالَ إِلْكِيَا: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُجُودِ مَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَجَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيُّ بَلْ أَوْجَبُوهُ، لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ قَدِيمٌ وَلَا مُخَاطِبَ أَزَلًا. وَأَنْكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُسْتَمْسِكِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ، وَلَا يُعْقَلُ الطَّلَبُ مِنْ الْمَعْدُومِ، فَقِيلَ: هَذَا الطَّلَبُ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطِبًا أَوْ مُتَعَلِّقًا، فَإِنَّهُ نَفْيٌ، وَإِذَا قُلْت: النَّفْيُ مُتَعَلِّقٌ فَكَأَنَّك قُلْت: لَا مُتَعَلِّقَ، فَقِيلَ لَهُمْ: الْمَعْدُومُ كَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا؟ قُلْنَا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِنَا فَقِيلَ: هَذَا أَمْرٌ وَلَا مَأْمُورَ.

قُلْنَا: هُوَ بِتَقْدِيرِ أَمْرٍ فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ فَلَا يَثْبُتُ دُونَ مُتَعَلَّقِهِ أَصْلًا، كَالْعِلْمِ لَا يَثْبُتُ دُونَ مَعْلُومٍ وَالْكَلَامُ الْأَزَلِيُّ لَيْسَ تَقْدِيرًا.

قَالَ: وَأَصْحَابُ الشَّيْخِ يَقُولُونَ: مَعْنَى قَوْلِنَا: " إنَّهُ فِي الْأَزَلِ آمِرٌ " أَنَّهُ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْجُودِ بَعْدَ وُجُودِهِ كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ