وَنُقِلَ عَنْ الْقَلَانِسِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: الْبَارِئُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ إلَّا إذَا أَمَرَ وَنَهَى وَدَخَلَ الْمُكَلَّفُونَ وَحَدَّثَ الْمُخَاطَبُونَ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ أَحَالُوا وُجُودَ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ اللَّهِ أَحَدٌ فِي الْأَزَلِ حَتَّى يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْأَمْرِ لِاسْتِحَالَةِ الْكَلَامِ.
وَدُهِشَ لِهَذَا بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْقَلَانِسِيُّ وَغَيْرِهِ حَتَّى رَكِبَ مَرْكَبًا صَعْبًا فَأَنْكَرَ كَوْنَ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا، فَخَلَصَ بِهَذَا مِنْ إلْزَامِهِمْ، لِأَنَّهُ إذَا نَفَى الْأَمْرَ فِي الْأَزَلِ لَمْ تَجِدْ الْمُعْتَزِلَةُ سَبِيلًا إلَى الطَّعْنِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي قِدَمِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَ أَمْرًا وَفَرَّ مِنْهُ، فَوَقَعَ فِي آخَرَ أَبْعَدَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَدِيمًا فِي الْأَزَلِ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِ الْكَلَامِ مِنْ كَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا. وَإِثْبَاتُ كَلَامٍ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا خَبَرٍ. وَلَا اسْتِخْبَارٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَكَأَنَّ مُثْبَتَهُ لَمْ يَثْبُتْ كَلَامًا، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ صِفَةً أُخْرَى غَيْرَ كَلَامٍ.
فَالْحَاصِلُ: صُعُوبَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَنْشَأَ عَنْهَا نَفْيُ قِدَمِ الْكَلَامِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا إثْبَاتُ قِدَمِ الْكَلَامِ، وَفِيهِ إثْبَاتُ قِدَمِ الْخَلَائِقِ الْمَأْمُورِينَ أَوْ إثْبَاتِ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ، وَإِمَّا إثْبَاتُ كَلَامٍ قَدِيمٍ عَارَضَ حَقَائِقَ الْكَلَامِ، فَأَمَّا شَيْخُ الْمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيُّ فَلَمْ يَسْتَبْعِدْ إثْبَاتَ أَمْرٍ فِي الْأَزَلِ وَلَا مَأْمُورَ لِأَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَمْرَ الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ عِنْدَ حُضُورِهِ.
وَأَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الَّذِي نَجِدُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا تَقْدِيرُ أَمْرٍ إذَا حَضَرَ لَا نَفْسَ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَكَلَامُ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا التَّقْدِيرُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute