الثَّانِي: أَنَّ " أَمَّا " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِي سِيَاقِهِ قِسْمَانِ: إمَّا لَفْظًا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَسَبَبُهُ إمَّا الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: ٦٧] وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَ الْآخَرَ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ، وَإِمَّا بِكَلَامٍ يُذْكَرُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ ذَلِكَ كَهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: ٧] فَهَذَا تَمَامُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي سِيَاقِ " أَمَّا " فَاقْتَضَى وَضْعُ اللُّغَةِ ذِكْرَ قِسْمٍ آخَرَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَكِلُونَ مَعْنَاهُ إلَى رَبِّهِمْ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: ٧] أَيْ مِنْ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِمَا وَاجِبٌ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} [البقرة: ٢٦] .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: " وَالرَّاسِخُونَ " وَإِنْ احْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ عَاطِفَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا هَاهُنَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَطْفَ، لَقَالَ: " وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " عَطْفًا لَيَقُولُونَ عَلَى يَعْلَمُونَ الْمُضْمَرِ، إذْ التَّقْدِيرُ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْمَلُونَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ " يَقُولُونَ " جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مَعَ إضْمَارِ فِعْلِهَا الْعَامِلِ فِيهَا، فَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ " عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا " بِمَعْنَى أَقْبَلَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالرَّاسِخُونَ قَائِلُونَ بِتَقْدِيرِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute