للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قِيلَ: وَالتَّعْرِيضُ أَخَصُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقًا لَا يَصْدُقُ عَلَى الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَكِنْ يَلُوحُ بِهِ إلَى غَرَضٍ آخَرَ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَهُوَ يُشْبِهُ الْكِنَايَةَ إذَا قُصِدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهَا مُرَادَةٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَهُوَ إنَّمَا يُرَادُ مِنْهُ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ إشْعَارُهَا بِالْمَقْصُودِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ لَا يَكْفِي فِيهَا، فَمِنْ الْكِنَايَةِ الْمَسُّ وَالْإِفْضَاءُ، وَالدُّخُولُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ، وَمِنْ التَّعَرُّضِ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: ٦٣] أَيْ أَنَّ كَبِيرَ الْأَصْنَامِ غَضِبَ أَنْ تُعْبَدَ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ فَكَسَّرَهَا، فَكَذَلِكَ اللَّهُ يَغْضَبُ لِعِبَادَةِ مَنْ دُونَهُ، فَكَلَامُ إبْرَاهِيمَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ضَرَبَهُ مَثَلًا لِمَقْصُودِهِ مِنْ التَّعْرِيضِ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ، وَيَكُونُ التَّعْرِيضُ مِمَّا لَا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ بَلْ ضَرَبَ الْمَثَلُ هَذَا، وَمِنْهُ مَا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَيُشَارُ بِهِ إلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيضِ. هَذَا حَدُّهُ بِاصْطِلَاحِ الْبَيَانِيِّينَ.

وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ ذَكَرُوا الْكِنَايَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَجَازٌ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ مُرِيدًا الطَّلَاقَ، فَهُوَ مَجَازٌ وَيُسَمِّيهِ الْفَقِيهُ كِنَايَةً، فَلَوْ أَرَادَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ لَازِمًا لِلطَّلَاقِ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ نَظَرٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ إلَّا فِي بَابِ اللِّعَانِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الصَّرِيحَ وَالْكِنَايَةَ وَالتَّعْرِيضَ أَقْسَامًا، وَذَكَرُوا فِي الْخِطْبَةِ التَّصْرِيحَ وَالتَّعْرِيضَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْكِنَايَةَ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كِنَايَةٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْكِنَايَةِ مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعَانِيهَا غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ، بَلْ ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ لَكِنَّهَا شَابَهَتْ الْكِنَايَةَ مِنْ جِهَةِ الْإِبْهَامِ، وَلِهَذَا اُشْتُرِطَتْ فِيهَا النِّيَّةُ لِيَزُولَ الْإِبْهَامُ، وَتَتَعَيَّنَ الْبَيْنُونَةُ عَنْ وَصْلَةِ النِّكَاحِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ مَفْهُومَاتِهَا اللُّغَوِيَّةَ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>