للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: عَكْسُهُ. أَيْ: أَنَّهُ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَصَاحِبُهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي " الْبُرْهَانِ "؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِلثَّانِي، وَانْتِفَاءُ السَّبَبِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمُسَبَّبُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسَبَّبِ سَبَبٌ سِوَاهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ انْتِفَاءُ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِدُونِ سَبَبٍ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ٢٢] كَيْفَ سِيقَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى انْتِفَاءِ التَّعَدُّدِ لِانْتِقَاءِ الْفَسَادِ لَا؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْفَسَادِ لِامْتِنَاعِ التَّعَدُّدِ؟ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَفْهُومَ. وَلِأَنَّ نَفْيَ الْآلِهَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادُ الْعَالَمِ.

قِيلَ: وَقَدْ خَرَقَ إجْمَاعَ النَّحْوِيِّينَ وَبَنَاهُ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ، وَالسَّبَبُ يَقْتَضِي الْمُسَبَّبَ لِذَاتِهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ السَّبَبِ عَدَمُ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَعَدَمُ مَانِعٍ، وَعَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ شَرْطٌ فِي انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، لَكِنَّ السَّبَبَ الْآخَرَ مَوْجُودٌ. ثُمَّ كَيْفَ يُصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: ٢٣] ؟ فَإِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ السَّمَاعِ وَعَدَمُ الْخَيْرِ فِيهِ لَا الْعَكْسُ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ: بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ وَالتَّعْلِيلِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَتَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْمَجِيءُ عِلَّةً لِلْإِكْرَامِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ فَانْتِفَاءُ الْإِكْرَامِ لِانْتِفَاءِ الْمَجِيءِ انْتِفَاءُ الْمَعْلُولِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يُعْلَمْ انْتِفَاءُ الْإِكْرَامِ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ مِنْهُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَجِيءِ اسْتِدْلَالًا بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَكَذَا فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ تَقُولُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ: انْتِفَاءُ الْفَسَادِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>