وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ مِنَّا، وَجَعَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ، نَحْوُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولٍ لَا بِالْعُمُومِ وَلَا بِالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمَّا لَمْ تُقْصَدْ مَفْعُولَاتُهَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ قُصِدَ بِهَا مَاهِيَّاتُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ؛ بَلْ وَعَنْ الْقُيُودِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ.
وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ أَصْلَ وَضْعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِتَدُلَّ عَلَى مَاهِيَّاتٍ مُقَيَّدَةٍ بِالْمَحَالِّ الَّتِي هِيَ الْمَفْعُولَاتُ كَمَا وُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى الْفَاعِلِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ يُحْذَفُ الْفَاعِلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ الْفِعْلُ، كَمَا فَعَلُوا فِي بَابِ إعْمَالِ الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ - يَتِيمًا} [البلد: ١٤ - ١٥] وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي التَّخْصِيصِ بِالنِّيَّةِ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَوْ نَوَى بِهِ مَأْكُولًا مُعَيَّنًا قُبِلَ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ، وَقَبُولُ الْعَامِّ لِلتَّخْصِيصِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ كَسَائِرِ الْعُمُومَاتِ، فَصَحَّ أَنْ يَنْوِيَ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَا كَانَ أَصْلًا لَهَا مَعَ كَوْنِهِ مَحْذُوفًا لَفْظًا؛ لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لَهُ وَضْعًا، وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ.
وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَيْمَانِ " لَوْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فِي الدُّنْيَا، وَنَوَى الْبَلَدَ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، إذْ لَيْسَ بِمُسَاكَنَةٍ، فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ؟ وَجْهَانِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعْمِيمِهِ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا الْمَاهِيَّةَ مُقَيَّدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُنَازِعَهُ. قَالَ: وَإِذَا الْتَفَتَ إلَى هَذَا ارْتَفَعَ الْخِلَافُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَقِيقٌ، لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute