قُلْت: وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعَاكِسُ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ أَصْلَهُمَا ذَهَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ إلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ فِي الْحَجِّ مَخْصُوصٌ بِحَصْرِ الْعَدُوِّ وَمَنَعَاهُ فِي الْمَرَضِ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦] نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ الْحُصْرُ بِعَدُوٍّ، فَاعْتَبَرَ خُصُوصَ السَّبَبِ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ فَاعْتَبَرَ عُمُومَ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَجِّ بِالْأَعْذَارِ، فَإِنَّ الْإِحْصَارَ عِنْدَ الْمُعْتَبِرِينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِإِحْصَارِ الْأَعْذَارِ، وَالْحَصْرُ مَوْضُوعٌ لِحَصْرِ الْعَدُوِّ.
قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَحَلَّ السَّبَبِ يَقْتَضِي حَصْرَ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَلَّ عَلَى حَصْرِ الْعَدُوِّ، كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى حَصْرِ الْأَعْذَارِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى، فَنَزَلَتْ لِتَدُلَّ عَلَى إحْصَارِ الْعَدُوِّ بِمَنْطُوقِهَا، وَعَلَى إحْصَارِ الْعُذْرِ بِمَفْهُومِهَا، فَتَنَاوَلَتْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُرِّرَ بِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَصْرِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: ١٩٦] وَالْأَمْنُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي زَوَالِ الْخَوْفِ مِنْ الْأَعْدَاءِ دُونَ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْأَعْذَارِ، وَأَجَابَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى التَّحَلُّلِ بِالْحَصْرِ رَجَعَ الْأَمْرُ إلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ، وَإِنْ جَعَلْنَا حَصَرَ وَأُحْصِرَ لُغَتَيْنِ دَلَّ أُحْصِرَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَرَجَعَ لَفْظُ الْأَمْنِ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
قَالَ: وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute