تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يُعَيِّنْ مِسْكِينًا مِنْ مِسْكِينٍ، وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ فَإِذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَتَكَرَّرَ إطْعَامُهُ بِالْغَدَاةِ، وَهُوَ بِالْغَدَاةِ مِسْكِينٌ، فَكَأَنَّهُ أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ، فَإِذَا انْتَهَى التَّكْرَارُ إلَى سِتِّينَ يَوْمًا صَارَ مُطْعِمًا سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكَوْنِ هَذَا الْمِسْكِينِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ.
وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فَذَكَرَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: إنَّ الْمَصْدَرَ يُقَدَّرُ " بِمَا، وَأَنَّ " فَإِذَا قَدَّرْنَا الْمَصْدَرَ هُنَا وَهُوَ " الْإِطْعَامُ " بِمَعْنَى " مَا " اقْتَضَى ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمَا يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ أَبَا حَنِيفَةَ إلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي أَرَادَ، وَإِنْ صَدَرَ " بِأَنَّ " كَانَ التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْأَخِيرُ يُخْرِجُ إلَى مَا يُرِيدُ. قَالَ: وَقَدْ زَاحَمْنَا أَبَا الْمَعَالِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ صِنَاعَةِ النَّحْوِ، وَذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ تَعَلُّقًا مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فِيهَا، وَهُوَ سِيبَوَيْهِ. اهـ.
وَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ تَعْطِيلَ النَّصِّ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ سَوَاءٌ أَعْطَى فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَمْ لَا. فَقَدْ عَطَّلُوا مِنْ النَّصِّ لَفْظَ السِّتِّينَ، وَلِلشَّارِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الْعَدَدِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ نَوْعُ تَعَبُّدٍ، وَهُوَ الْعَدَدُ، فَالتَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ الْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَا نَقَلَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْعَامِلُ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةُ النَّاصِبَةُ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ، لَا " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةُ وَ " مَا " الْمُقَدَّرَةُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ بِمَنْزِلَةِ " أَنْ ". وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ إذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً لَا بِمَعْنَى الَّذِي، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَمَا يُطْعَمُ، وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَنْكَرَ نِسْبَةَ هَذَا التَّأْوِيلِ لِجُمْهُورِهِمْ، وَقَدَّرَهُ: إعْطَاءُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ، فَجَوَّزُوا إخْرَاجَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute