للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي النَّفْيِ إذَا وَقَعَ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُلْحَقُ بِالْمُجْمَلَاتِ، لِأَنَّ نَفْيَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الذَّوَاتِ، وَمَعْلُومٌ ثُبُوتُهَا حِسًّا، فَقَدْ صَارَ الْمُرَادُ مَجْهُولًا. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تَضَعُ هَذَا النَّفْيَ لِلذَّاتِ فِي كُلِّ مَكَان، وَإِنَّمَا تُورِدُهُ مُبَالَغَةً، فَتَذْكُرُ الذَّاتَ، لِيَحْصُلَ لَهَا مَا أَرَادَتْ مِنْ الْمُبَالَغَةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الذَّاتِ، وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا، وَيُخَصُّ الذَّاتُ بِالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُرِدْهُ.

وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ تَقْصِدْ الْعَرَبُ إلَى نَفْيِ الذَّاتِ، وَلَكِنْ لِنَفْيِ أَحْكَامِهَا، وَمِنْ أَحْكَامِهَا الْكَمَالُ وَالْإِجْزَاءُ، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا. وَأَنْكَرَ هَذَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ فِيمَا يَتَنَافَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَ الْكَمَالِ يُشْعِرُ بِحُصُولِ الْإِجْزَاءِ، فَإِذَا قُدِّرَ الْإِجْزَاءُ مَنْفِيًّا لِتَحَقُّقِ الْعُمُومِ، قُدِّرَ ثَابِتًا لِتَحَقُّقِ إشْعَارِ نَفْيِ الْكَمَالِ بِثُبُوتِهِ، وَهَذَا يَتَنَاقَضُ، وَمَا يَتَنَاقَضُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ، وَصَارَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى التَّوَقُّفِ بَيْنَ نَفْيِ الْإِجْزَاءِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ، وَادَّعَوْا الِاحْتِمَالَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لَا بِمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، فَعَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ يَخْرُجُ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . وَالْقَائِلُونَ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.

أَحَدُهَا: أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ قَطْعًا، فَاقْتَضَتْ إيهَامًا.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَنَفْيِ الْحُكْمِ، فَصَارَ مُجْمَلًا.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ نَفْيِ الْجَوَازِ وَنَفْيِ الْوُجُودِ. قَالَ الْمُقْتَرِحُ: وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَذْهَبِ الْقَاضِي.

قُلْت: قَدْ سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْهُ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ ". وَصَرَّحَ بِنَقْلِهِ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَرَدَّهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>