وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي الْمُسْتَوْفَى ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُخَيَّرَ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُخَيَّرَ فِي أَنْوَاعِهِ إنْ كَانَ ذَا أَنْوَاعٍ، وَفِي أَشْخَاصِهِ إنْ كَانَ ذَا أَشْخَاصٍ. فَيُقَالُ: لَا شَكَّ إنْ أَرَدْت الْمُخَيَّرَ فِيهِ فَالْعَيْنُ وَاحِدٌ لَا يَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا، وَإِنْ أَرَدْت التَّخْيِيرَ فِي أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ، فَأَنْوَاعُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ وَأَشْخَاصِهِ يَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا، وَبِهِ يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. قُلْت: وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُحَقَّقٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَاجِبَ كُلُّ خَصْلَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْأُخْرَى، وَبِهِ يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إعْتَاقِ رَقَبَةٍ مِنْ الْجِنْسِ، وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْوَاجِبَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخِصَالِ، وَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قَائِلٌ. وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى إبْهَامًا، وَالْفُقَهَاءِ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ، وَالْمُعْتَزِلَةُ إنَّمَا قَصَدُوا الْفِرَارَ مِنْ قَوْلِنَا: أَحَدُهَا وَاجِبٌ لِعَدَمِ جَوَازِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ. وَأَصْحَابُنَا لَا يُرَاعُونَ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ، وَيُجَوِّزُونَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا الْوَاجِبَ مُبْهَمًا. فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى مُجَرَّدِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ فِي الْمَعْنَى.
تَنْبِيهٌ: لَا يَخْفَى تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِمَا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَطْلُوبًا. أَمَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدَهَا، وَلَمْ يُقْصَدْ بِالتَّخْيِيرِ ظَاهِرُهُ بَلْ التَّهْدِيدُ، فَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ وَاحِدٌ قَطْعًا. وَمِثَالُهُ: قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: ١١]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute