للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثَّالِثُ: إذَا كَانَ أَصْلُهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا جُزْئِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ لَنَا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْعَرَايَا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا وَفِي الْعَرَايَا مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ فِي الرِّبَا، وَلَكِنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ فِي الرِّبَا: وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ كَمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهَا فِي رِبَا النَّسَاءِ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَهُ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِيهِ يَجُرُّ إلَى رِبَا النَّسَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِهَذَا.

وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا أَنَّهَا عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ مِنْ قِيَاسِ الرِّبَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ مَعْهُودًا لَنَا، وَإِذَا سَاغَ - دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى - إلْحَاقُ مَا عَدَا الْمَنْصُوصَ بِهِ سَاغَ تَقْدِيرُ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ حَيْثُ امْتَنَعَ الِاعْتِبَارُ وَالتَّقْرِيبُ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْأَجَلَ وَالْخِيَارَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ التَّرَاضِي وَهُوَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْعَالِمِ إلَّا بِهِ، وَتَجْوِيزُ الْخِيَارِ مِنْ تَفَاصِيلِ أَصْلِ الرِّضَا، فَصَحَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ خِلَافُ قِيَاسٍ هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. وَأَقُولُ: هُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُرَدَّ ابْتِدَاءً غَيْرَ مُقْتَطَعٍ مِنْ أَصْلٍ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْعِلَّةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُسَمَّى هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ تَجَوُّزًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُنْقَاسًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِيَاسِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَمِثَالُهُ الْمُقَدَّرَاتُ وَأَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ. أَمَّا أَصْلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا كَمَا سَبَقَ.

الثَّانِي: مَا شُرِعَ مُبْتَدَأً غَيْرَ مُقْتَطَعٍ مِنْ أَصْلٍ وَهُوَ مَعْقُولٌ لَكِنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا بِالْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ بَعِيدَةٌ جِدًّا. قُلْت: فِيهِ التَّأْوِيلُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِثَالُهُ تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ وَالْقَسَامَةُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وُجُودُ الْبَهِيمَةِ فِي الْمَحَلَّةِ مَقْتُولَةً، وَكَذَا جَنِينُهَا لَا يُضْمَنُ، بِخِلَافِ جَنِينِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي جَنِينِ الْآدَمِيِّ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>