وَالْحَقُّ أَنَّ رِعَايَةَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ جَائِزٌ وَاقِعٌ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ الْعِلَّةَ وَالْغَرَضَ وَالتَّحْسِينَ الْعَقْلِيَّ وَرِعَايَةَ الْأَصْلَحِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَاضِحٌ، وَلِخَفَاءِ الْغَرَضِ وَقَعَ الْخَبْطُ. وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْحِكْمَةِ فِي أَمْرٍ كَوْنِيٍّ أَوْ دِينِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ فَانْظُرْ إلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْغَايَاتِ فِي جُزْئِيَّاتِ الْكَوْنِيَّاتِ وَالدِّينِيَّاتِ مُتَعَرِّفًا بِهَا مِنْ النَّقْلِ الصَّحِيحِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: ١] فِي حِكْمَةِ الْإِسْرَاءِ وَبِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْقَانُونِ يَتَّضِحُ كَثِيرٌ مِنْ الْإِشْكَالِ وَيَطَّلِعُ عَلَى لُطْفِ ذِي الْجَلَالِ.
وَقَرَّرَ ابْنُ رَحَّالٍ فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرِحِ " الْإِجْمَالَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ عَلَى أَصْلِنَا، أَوْ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَلَا لِأَنَّ خُلُوَّ الْأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا نَقُولُ رِعَايَةُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ، وَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يَقَعَ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ. ثُمَّ الْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ مَا يُرِيدُ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ أَنَّ نَقِيضَهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْبَارِي، كَمَا يَجِبُ وَصْفُهُ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ نَقِيضَهُ - وَهُوَ الْجَهْلُ - مُمْتَنِعٌ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَنْزِلُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: اُشْتُهِرَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيلُ وَأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَيَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهَا الْبَاعِثُ لِلشَّرْعِ فَيَتَنَاقَضُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا تَنَاقُضَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، مِثَالُهُ حِفْظُ النُّفُوسِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى الْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ الْمَحْكُومُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا عِلَّةَ لَهُ وَلَا بَاعِثَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ النُّفُوسَ بِغَيْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute