ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ أَمْرُهُ بِحِفْظِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَبِالْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ: حِفْظُ النُّفُوسِ قَصْدَ الْمَقَاصِدِ، وَالْقِصَاصُ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَأَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ سَبَبٌ لِلْحِفْظِ. فَإِذَا قَصَدَ بِأَدَاءِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَوَلِيِّ الدَّمِ الْقِصَاصَ، وَانْقَادَ إلَيْهِ الْقَاتِلُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَسِيلَةً إلَى حِفْظِ النُّفُوسِ، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ عَلَى الْقِصَاصِ وَأَجْرٌ عَلَى حِفْظِ النُّفُوسِ، وَكِلَاهُمَا مَأْجُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَحَدُهُمَا بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: ١٧٨] وَالثَّانِي: إمَّا بِالِاسْتِنْبَاطِ أَوْ بِالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] . وَهَكَذَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ هُنَا نُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِلشَّارِعِ فِيهِ مَقْصُودَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَالثَّانِي: الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إلَيْهِ وَأَمْرُ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَفْعَلَهُ قَاصِدًا بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَالْمَعْنَى بَاعِثٌ لَهُ لَا لِلشَّارِعِ. وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ فَاتَهُمْ نِصْفُ التَّفَقُّهِ وَنِصْفُ الْأَجْرِ، وَتَعْرِفُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَكْثَرُ أَجْرًا مِنْ التَّعَبُّدِيِّ، نَعَمْ التَّعَبُّدِيُّ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النُّفُوسَ لَا حَظَّ لَهَا فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ الْأَجْرُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْحُكْمِ غَيْرِ التَّعَبُّدِيِّ، وَتَعْرِفُ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ سَوَاءٌ فِيهَا الْمُسْتَنْبَطَةُ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ.
فَائِدَةٌ:
بِعَيْنِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: حُكْمُ اللَّهِ بِالْقِصَاصِ، وَنَفْسُ الْقِصَاصِ وَحِفْظُ النُّفُوسِ، وَهُوَ بَاعِثٌ عَلَى الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ، وَكَذَا حِفْظُ الْمَالِ بِقَطْعِ السَّرِقَةِ، وَحِفْظُ الْعَقْلِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّ الْأَحْكَامَ وَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ لَا أَنَّهَا عِلَّةٌ لَهَا، وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ. انْتَهَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute