وَقَالَ إلْكِيَا: فَصْلٌ: فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ هَلْ وُضِعَتْ لِعِلَلٍ حُكْمِيَّةٍ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا لَا اسْتِصْلَاحَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَنَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَا أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَرَفْنَاهُ مِنْ الشَّرَائِعِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى الِاسْتِصْلَاحِ، دَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى مُلَاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِّيَّةِ وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ وَأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: ١٦٥] وَقَالَ {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: ٢٥] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: ٢٥] وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِالشَّرَائِعِ لِاسْتِصْلَاحِ الْعِبَادِ، وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ وُقُوعِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ يَقَعُ الْآخَرُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْتَارُ مِمَّنْ ثَبَتَتْ حِكْمَتُهُ، فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ السَّمْعُ فَأَحَدُهَا الْقِيَاسُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ.
ثُمَّ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ بِأَدِلَّةٍ مَوْضُوعَةٍ مِنْ النَّصِّ تَارَةً، وَمِنْ مَفْهُومٍ وَتَنْبِيهٍ وَسَيْرٍ وَإِيجَازٍ، وَمِنْهَا مَا لَا يُطَّلَعُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهَا، فَمِنْ هَاهُنَا تَخْصِيصُ التَّكَالِيفِ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِالنَّدْبِ، وَبَعْضِهَا بِالْوُجُوبِ، وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ بِحَسَبِ الْمَعْلُومِ مِنْ حَالِ الْمُتَعَبَّدِينَ بِهِ وَاحِدًا اخْتَلَفَ الْأَفْعَالُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّقْلِ مِنْ شَرِيعَةٍ إلَى أُخْرَى، وَقَدْ بَنَى اللَّهُ أُمُورَ عِبَادِهِ عَلَى أَنْ عَرَّفَهُمْ مَعَانِيَ دَلَائِلِهَا وَجُمَلِهَا، وَغَيَّبَ عَنْهُمْ مَعَانِيَ دَقَائِقِهَا وَتَفَاصِيلِهَا، كَمَا إذَا رَأَيْنَا رَجُلَيْنِ عَلِيلَيْنِ تَفَاوَتَتْ عِلَلُهُمَا عَرَفْنَا الْوَجْهَ فِي افْتِرَاقِهِمَا، وَلَوْ سَأَلْنَا عَنْ تَعْدَادِ الِاخْتِلَافِ جَهِلْنَا وَهَذَا فَنٌّ يَهُونُ بَسْطُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute