للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذَا عَرَفْت هَذَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: اُحْكُمْ فَكُلُّ مَا حَكَمْتَ هُوَ الصَّوَابُ؟ أَوْ يَأْمُرُ عَامَّةَ الْخَلْقِ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا عَنَّ لَهُمْ، أَوْ بَعْضَ الْعَالِمِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي. فَقِيلَ: لِلَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِذَلِكَ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إذَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ الْفَسَادَ وَالصَّلَاحَ جَمِيعًا وَلَيْسَ اخْتِيَارُهُ عَلَمًا عَلَى الصَّوَابِ، وَبِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِتَصْدِيقِ نَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، فَكَمَا يَجُوزُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْنَا فِي الْخَبَرِ عَلَى اتِّفَاقِ الصِّدْقِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمَصْلَحَةِ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ أَنَّ الْأَمَارَةَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِهِ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَالظَّنُّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمَارَةٍ تُفْضِي إلَى الظَّنِّ قَطْعًا، وَهُنَا بِخِلَافِهِ، إذْ لَا أَمَارَةَ.

إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اشْتِمَالِ كُلِّيَّاتِ الشَّرْعِ وَجُزْئِيَّاتِهِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَانْقِسَامِهَا إلَى مَا يَلُوحُ لِلْعِبَادِ وَإِلَى مَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا وَرَاءَ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَأَنَّهُ مِنْ مَدَارِك الْأَحْكَامِ أَوْ مِنْ الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ الْمَحْضِ، وَاَلَّذِينَ رَدُّوا الْقِيَاسَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ أَصْلًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ، قَالَ: وَيَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أُصُولٍ تُعَلَّلُ وَتُحْمَلُ الْفُرُوعُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ جِهَاتِ الْمَصَالِحِ مُغَيَّبَةٌ عَنَّا، فَلَا وُصُولَ إلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ مِنْ بَيْنِ الْمَعَانِي عَلَى وَجْهٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ دُونَ مَا سِوَاهُ قَطْعًا، وَلِأَجْلِهِ تَفَاوَتَتْ الْآرَاءُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْأُصُولَ السَّمْعِيَّةَ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَصَّلُ إلَى أَحْكَامِهَا بِالْأَمَارَاتِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِمِثْلِهَا إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ لَهَا أَمَارَاتٍ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ. انْتَهَى.

مَسْأَلَةٌ

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ إمَّا جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا - عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>