الثَّانِي: مَثَّلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: هُوَ الْوَزْنُ، وَجَعَلُوا لِذَلِكَ فُرُوعًا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ، ثُمَّ جَوَّزُوا إسْلَامَ الدَّرَاهِمِ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ مَعَ اجْتِمَاعِهَا فِي الْوَزْنِ، فَحَكَمُوا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَانْتَقَضَتْ عِلَّةُ الْوَزْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لَمْ تَنْتَقِضْ. قِيلَ: قَدْ نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: الْوَاجِبُ فِي إتْلَافِ الْمِثْلِ الْمِثْلُ، ثُمَّ خَصَّ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْمُصَرَّاةِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ فِي اللَّبَنِ الْمُسْتَهْلَكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَقَالَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلشِّدَّةِ، وَقَاسَ عَلَيْهَا النَّبِيذَ، وَلِلْخَمْرِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: التَّحْرِيمُ، وَالتَّفْسِيقُ، وَالْحَدُّ، فَطَرَدَ عِلَّتَهُ فِي الشَّرْعِ فِي الْحَدِّ، وَلَمْ يَطْرُدْهَا فِي التَّفْسِيقِ، فَإِنَّهُ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَةُ شَارِبِ النَّبِيذِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِفِسْقِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خَصَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَرَايَا، وَجَوَّزَ الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ كَيْلًا، وَكَذَلِكَ خَصَّ ضَمَانَ الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ مَعَ مُخَالَفَةِ سَائِرِ أَجْنَاسِهِ، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ.
وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُنْكِرُ وُجُودَ مَوَاضِعَ فِي الشَّرْعِ وَتَخْصِيصَهَا بِأَحْكَامٍ تُخَالِفُ سَائِرَ أَجْنَاسِهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَقُومُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى الْخُصُوصِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، إنَّمَا الْمَمْنُوعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْ الْعَرَايَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْمُزَابَنَةِ الْجَهْلُ الْكَثِيرُ، وَمَا أُجِيزَتْ فِيهِ قَلِيلٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ عِلَّةً مُقَيِّدَةً لِعِلَّةِ الرِّبَا مُقَيِّدَةً لِلْجِنْسِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ تَمَسَّكُوا بِآيَاتٍ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: ٧٨] فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي قَصَدُوا بِهَا إطْلَاقَهُ مِنْ يَدِ الْعَزِيزِ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذِهْنِهِمْ أَنَّ الْعَزِيزَ يَعْرِفُ أُخُوَّتَهُمْ الَّذِي أَخَذُوا الِاحْتِرَازَ مِنْ مَحَلِّ النَّقْضِ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْمُعْتَرِضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute