بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِضُ إلَّا بِحَسَبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لَفْظًا، وَتَكْفِي إرَادَتُهُ. فَالْعِلَّةُ أَنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وَأَنَّهُ صَغِيرٌ يَصْدُرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُزْنِ مَا لَا يَصْدُرُ عَلَى أَحَدٍ، فَحَذَفَ هَذَا الْقَيْدَ مَعَ إضْمَارِهِ، وَإِنَّ فِي حَذْفِهِ لَفَائِدَةً جَلِيلَةً، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَصْدٌ فِي التَّعْرِيفِ بِأُخُوَّتِهِمْ لَهُ، وَلَوْ صَرَّحُوا لَهُ بِذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ لَفَهِمَ أُخُوَّتَهُمْ لَهُ. فَتَأَمَّلْ هَذَا مَا أَحْسَنَهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: ١١٣] الْآيَةَ. دَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْ اسْتِغْفَارِ إبْرَاهِيمَ بِالْوَعْدِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: ١٤٣] فَإِنَّهُ طَالَبَ الْكُفَّارَ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ فِيمَا ادَّعَوْا فِيهِ الْحُرْمَةَ لِأَوْجُهٍ لَا تَدْفَعُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ إذَا أَثْبَتُوا أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي أَنَّ الْحُرْمَةَ لِأَجْلِهِ انْتَقَضَ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجَوَازِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَلَوْ كَانَ التَّخْصِيصُ فِي عِلَلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزًا لَمَا كَانُوا مَحْجُوجِينَ فَإِنَّهُ لَا يَعِزُّ أَنْ يُقَالَ امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ هُنَاكَ لِمَانِعٍ.
الرَّابِعُ: مَثَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِمَسْأَلَةِ الْعَرَايَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ إنْ قُلْنَا: إنَّ تَحْرِيمَ الْمُزَابَنَةِ وَارِدٌ أَوَّلًا وَاسْتَقَرَّ، ثُمَّ وَرَدَتْ رُخْصَةُ الْعَرَايَا. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى خُصُوصِ الْعَرَايَا، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُزَابَنَةِ مَا سِوَاهَا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ فَلَا. وَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَنَقَلَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ " عَنْ الرَّبِيعِ عَنْهُ، وَنَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوْلَى الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدِي الثَّانِي: وَقَدْ يُقَالُ: تَرْجِيحُ الثَّانِي يَقْتَضِي مَنْعَ كَوْنِ الْعَرَايَا رُخْصَةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute