شَرَطْنَا الِاطِّرَادَ عُمُومًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ - وَهُوَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ - يَكْتَفِي بِالْعَكْسِ وَلَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَكْسِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، فَمَنْ مَنَعَهُ اشْتَرَطَ الْعَكْسَ فِي الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْحُكْمِ إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِقَاءِ دَلِيلِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ أَشَارَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَحَوَّمَ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مَنْ يُجَوِّزُ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ لِعِلَّةٍ يَشْتَرِطُ الْعَكْسَ وَيَقُولُ عِنْدَ انْتِفَاءِ وَاحِدَةٍ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَيْهَا وَذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ لَا يُعَلِّلُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ يُجَوِّزُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَبَقَاءَهُ لَا بِعِلَّةٍ أَصْلًا بَلْ عَنْ دَلِيلٍ [مِنْ] الشَّرْعِ تَعَبُّدِيٍّ فَلَمْ يَكُنْ انْتِفَاءُ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: حَيْثُ قُلْنَا بِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ وَإِنَّ الْعَكْسَ لَازِمٌ فَلَا نَعْنِي بِلُزُومِهِ مَا أَرَادَهُ مُشْتَرِطُوهُ، بَلْ نَقُولُ مِنْ الزُّهُوقِ حُكْمًا بِعِلَّةٍ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ وَجَدَ الْحُكْمَ فِي صُورَةِ كَذَا بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا ضَيْرَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدِي إمَّا الْوَصْفُ الَّذِي ذَكَرْته أَوْ أَمْرٌ صَادِقٌ عَلَى الْوَصْفِ صِدْقًا لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَأَيًّا مَا كَانَ حَصَلَ الْغَرَضُ مِنْ صِدْقِ الْعِلَّةِ عَلَى الْوَصْفِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عِلَّةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَحَدَ وَصْفَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ فَقَدْ صَدَقَ الْعِلَّةُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ. فَحَصَلَ الْغَرَضُ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ.
وَهَذَا كَشَفَ الِاضْطِرَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْعَكْسَ فَهِمُوا أَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ وَهَمُوا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْوَصْفَ مَهْمَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ لَزِمَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً صَدَقَ الْعِلَّةُ عَلَيْهِ كَمَا يَصْدُقُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُوجَدَ الْعَامُّ بِوُجُودِ خَاصٍّ آخَرَ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ وُجُودِ الْخَاصِّ وُجُودُ الْعَامِّ. نَعَمْ، يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute