وَالْعَدَمِيِّ بِالْوُجُودِيِّ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ الْوُجُودِيِّ بِالْعَدَمِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ إلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّ لَا مَعْنَى لِلْعِلَّةِ إلَّا الْمُعَرِّفُ وَهُوَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْعَدَمِ. وَمِثَالُهُ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَدَمُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ " إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ مَعْنًى يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ، وَالنَّفْيُ عَدَمُ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ. وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. وَمِنْ حُجَّةِ الْمَانِعِ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ كَالسَّرِقَةِ الْمَنْصُوبَةِ عِلَّةً لِلْقَطْعِ، فَإِنَّهَا مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ، إذْ كَوْنُهَا جِنَايَةً وَمَفْسَدَةً إنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَاتِهَا لَا مِنْ خَارِجٍ عَنْهَا. وَهَذَا مُنَازَعٌ فِيهِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا أَمَارَةً عَلَى الْحِكْمَةِ وَحِينَئِذٍ فَالْعَدَمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَمَارَةً عَلَيْهَا، وَقَدْ سَاعَدَ الْخَصْمَ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِإِمْكَانِ جَعْلِ الْعَدَمِ أَمَارَةً، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْعَدَمِ أَمْكَنَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ لِأَنَّ الظُّهُورَ لَا يَخْتَلِفُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَنْكَرَهُ قَوْمٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ فِيهِمَا جَمِيعًا، قَالَ: وَفَصَّلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا فَجَوَّزَهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ دُونَ الْعَقْلِيَّاتِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - فِيمَا رَدَّ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ - فِي خَرَاجِ الْبَيْعِ مِنْ غَلَّةٍ وَثَمَرَةٍ وَوَلَدٍ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ صَفْقَةُ الْبَيْعِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي إبَاحَةِ الْقَصْرِ: لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ كَانَ الْحُكْمُ مِنْ قَبِيلِ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأُصُولِ تَطَرَّقَ الْقِيَاسُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، كَقَوْلِنَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْأَكْلِ وَلَا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ ظَنًّا وَإِنْ أَمْكَنَ تَلَقِّيه مِنْ أَمَارَةٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ لَمْ يَمْتَنِعْ تَلَقِّيه مِنْ الْقِيَاسِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْحُكْمُ وَالْعِلَّةُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتِيَّيْنِ، كَثُبُوتِ الرِّبَا لِعِلَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute