مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الصِّيغَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْعَزْمُ عِنْدَهُ بَدَلٌ مِنْ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ، فَإِذَا عَزَمَ فَقَدْ سَقَطَ وُجُوبُ التَّقْدِيمِ لَا بَدَلٌ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ.
وَكَذَا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ يَقُولُ: حُكْمُ الْعَزْمِ الْأَوَّلِ يَنْسَحِبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَجِبُ تَذَكُّرُهُ فِي كُلِّ حَالٍ، كَالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: وَعِنْدَهُ أَنَّ دَلِيلَ الْعَزْمِ لَا يُتَلَقَّى مِنْ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ خُرُوجٌ عَظِيمٌ، وَأَدْنَى مَا فِيهِ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُشْعِرْ بِهِ اللَّفْظُ، قَالَ: وَمِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ تَوَقُّفُ الْقَاضِي فِي صِيغَةِ " افْعَلْ " إذَا وَرَدَتْ عَلَى التَّرَدُّدِ، ثُمَّ الْتِزَامُ إثْبَاتِ الْعَزْمِ الَّذِي لَيْسَ فِي اللَّفْظِ إشْعَارٌ بِهِ، ثُمَّ إنَّهُ وَجَبَ فِي كُلِّ وَقْتٍ الْفِعْلُ أَوْ الْعَزْمُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْفِعْلَ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ. قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخَاطَبِ الِاعْتِنَاءُ بِالْعَزْمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَّا تَيَقُّنَ الِامْتِثَالِ فِيهِ. وَأَطْنَبَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ فِي تَزْيِيفِ الْقَوْلِ بِالْعَزْمِ، وَقَالَ: يَجِبُ طَرْحُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ الشَّافِعِيِّ.
وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ طَرِيقَةً وُسْطَى وَهِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَافِلِ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ، وَبَيْنَ مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْفِعْلِ عَزَمَ عَلَى التَّرْكِ ضَرُورَةً، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَرَافِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ "، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِمَذْهَبِ الْقَاضِي، إذْ لَيْسَ لَنَا قَائِلٌ بِوُجُوبِ الْعَزْمِ مَعَ الْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمَّا كَانَ الْقَاضِي وَابْنُ فُورَكٍ يَرَيَانِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute