أَقْوَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ مِنْ أَقْوَى الْمَسَالِكِ وَكَادَ يَدَّعِي إفْضَاءَهُ إلَى الْقَطْعِ. وَإِنَّمَا سَمَّيْت هَذَا الشَّيْخَ لِغَشَيَانِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي مُدَّةً وَإِعْلَاقِهِ طَرَفًا مِنْ كَلَامِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ حِيَالَهُ.
قُلْت: وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ مَا لَفْظُهُ: وَأَمَّا الطَّرْدُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا، وَلَا يَجُوزُ إذَا اطَّرَدَ مَعْنًى أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهِ حَتَّى يَدُلَّ التَّأْثِيرُ أَوْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ عَلَيْهِ. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ": الطَّرْدُ وَالْجَرَيَانُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ بِدَلِيلِ صِحَّتِهَا. وَقِيلَ: دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَقَالَ: إذَا لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ وَلَا أَصْلٌ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الطَّرْدُ عِنْدَنَا شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الِاطِّرَادُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا. وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الِانْعِكَاسَ شَرْطٌ، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِهَا بَطَلَتْ الْعِلَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقًا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ انْعِكَاسُهَا، فَكَذَلِكَ السَّمْعِيَّةُ. وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مَنْصُوبَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْحُدُودِ " إنَّهُ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ. قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْهُ أَيْضًا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَعَ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْلُولَ دَائِرٌ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute