مُنَاظَرَةٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَكَرْت حُكْمًا بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ، فَطُولِبْت بِالدَّلِيلِ فَقُلْت: لَا دَلِيلَ عَلَيَّ، لِأَنِّي نَافٍ، وَالنَّافِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِي: مَا دَلِيلُك عَلَى أَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؟ قُلْت: هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِك، أَنَا نَافٍ أَيْضًا فِي قَوْلِي " لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي " فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالدَّلِيلِ؟ فَأَجَابَ: يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ بِأَنْ يُقَالُ: النَّافِي مُفْتٍ، كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ مُفْتٍ، وَالْفَتْوَى لَا تَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَانَ بِالْكَرْخِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَشَهِدَتْ أُخْرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، بَلْ بِالْمَوْصِلِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ، وَلَيْسَتْ الْوَحْدَانِيَّةُ إلَّا نَفْيَ الثَّانِي. فَأَجَبْت بِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّك تَرُومُ بِهِ إثْبَاتَ مُحَالٍ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى النَّافِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُقْتَضِيَةَ مَعَ تَشَعُّبِ طُرُقِهَا وَتَقَارُبِ أَطْرَافِهَا فَمَا مِنْ سَبَبٍ يَتَعَرَّضُ لِإِبْطَالِهِ إلَّا وَيَجُوزُ فَرْضُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ، وَهَذَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ يَفُوتُ بِهَذَا مَقْصُودُ النَّظَرِ مِنْ الْعُثُورِ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَبَدَائِعِ الْأَحْكَامِ، قُلْت: وَمَا هَذَا إلَّا كَالْمُدَّعِي وَالْمُنْكِرِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِي مُثْبِتٌ وَالْمُنْكِرُ يَنْفِي وَلَا يُطَالَبُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى نَفْيِهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَلَا تَلْزَمُ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَالتَّعَارُضُ لِإِثْبَاتِ إلَهٍ عَلَى صِفَةٍ، فَإِثْبَاتُ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِيهَا نَفْيُ الشَّرِكَةِ.
مَسْأَلَةٌ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالِاسْتِصْحَابِ نَقَلَ الدَّبُوسِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ فِي إبْقَاءِ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ، لَا لِمَا لَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ، قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَلَمْ يَجُزْ شَغْلُ الذِّمَّةِ بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ، قَالَ: وَعِنْدَنَا هُوَ جَائِزٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute