إلَّا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي جِنْسِهَا، لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كُلَّ مَصْلَحَةٍ صَادَمَهَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ قَالَ: وَمَا حَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْمَقَالَةَ إذْ لَا أَخُصُّ مِنْهَا إلَّا الْأَخْذَ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِأَصْلٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِرْسَالِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ مَذْهَبًا، فَبَانَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمُعْتَبَرَةِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْمُرْسَلَةِ الَّتِي قَالَ بِهَا مَالِكٌ، إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، أَوْ لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ جَازَ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ. وَإِلَّا فَلَا. وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا، لِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْوَطْءُ سَبَبُ الشَّغْلِ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ لَاجْتَمَعَ الضِّدَّانِ. فَلَيْسَ لِهَذَا الْأَصْلِ جُزْئِيٌّ، وَإِنَّمَا أَصْلُهُ كُلِّيٌّ مُهْدَرٌ، وَهُوَ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى اعْتِمَادِ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِشَرْطِ مُلَائِمَتِهِ لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ نَقْلِ ابْنِ بَرْهَانٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْخُوَارِزْمِيِّ فِي " الْكَافِي ": إنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا وَتَعْلِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِهَا. لَكِنْ إذَا قَيَّدْنَاهُ بِهَذَا انْسَلَخَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ التَّقْرِيبَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ، وَفَسَّرَهُ بِالْمُلَاءَمَةِ كَانَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ، فَيَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْمُعْتَبَرِ، وَبِهِ يَخْرُجُ عَنْ الْإِرْسَالِ، وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": لَا يَظُنُّ بِمَالِكٍ - عَلَى جَلَالَتِهِ - أَنْ يُرْسِلَ النَّفْسَ عَلَى سَجِيَّتِهَا وَطَبِيعَتِهَا، فَيَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْجَامِدَةَ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أُصُولِ الشَّرْعِ بِحَالٍ، لَا عَلَى كُلِّيٍّ وَلَا عَلَى جُزْئِيٍّ. إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ سَمِعُوا أَنَّهُ بَنَى الْأَحْكَامَ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُطْلَقَةِ فَأَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فِي بَابِ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ: وَلَا نَرَى التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ: وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute