الْإِمْكَانِ، فَحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنَا عَلَى التَّقْلِيلِ، وَكَانَ هَذَا
الْتِفَاتًا عَلَى مَصْلَحَةِ عِلْمٍ بِالضَّرُورَةِ
كَوْنُهَا مَقْصُودَةً بِالشَّرْعِ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ، وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً كُلِّيَّةً قَطْعِيَّةً. فَخَرَجَ بِ " الْكُلِّيَّةِ " مَا إذَا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةِ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ. وَبِ " الْقَطْعِيَّةِ " مَا إذَا شَكَكْنَا فِي أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَسَلَّطُونَ عِنْدَ عَدَمِ رَمْيِ التُّرْسِ، وَبِ " الضَّرُورِيَّةِ " مَا إذَا تَتَرَّسُوا فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ، فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَخْذِ الْقَلْعَةِ.
وَهَذَا مِنْ الْغَزَالِيِّ تَصْرِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ حَكَوْا فِي مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ يُؤَوَّلُ إلَى مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَاطَ فِي الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ تَعْلِيقَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحَ رَآهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وَفَاءً بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ. وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوْ نَحْوًا مِنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي اعْتِبَارِهَا. وَأَمَّا ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: هُوَ احْتِكَامٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ هُوَ تَصْوِيرٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً وَلَا شَرْعًا: أَمَّا عَادَةً فَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، إذْ هُوَ غَيْبٌ عَنْهَا. وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأُمَّةُ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوٌّ عَلَيْهَا لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتِهَا قَالَ: وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ، لِتَضْيِيقِهِ فِي قَبُولِهِ بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ. انْتَهَى.
وَهَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute