وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ، لَا عَلَى مَا سَبَقَ، بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَمِثَالُهُ: لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ. فَقِيلَ: يُرَدُّ، وَقِيلَ: يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ. قَالَ أَشْهَبُ: الْقِيَاسُ الْفَسْخُ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَمْ يَمْضِ إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِ نَصِيبِ الرَّادِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قُلْت لِمَالِكٍ: لَمْ يَقْضِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ وَلَيْسَ بِمَالٍ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لِشَيْءٍ اسْتَحْسَنَّاهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْأَمْوَالِ.
وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ: بَحَثْت عَنْ مَوَارِدِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَذْهَبِنَا فَإِذَا هُوَ يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ الدَّلِيلِ بِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارِضُهُ بَعْضُ مُقْتَضَاهُ، كَتَرْكِ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ فِي رَدِّ الْأَيْمَانِ إلَى الْعُرْفِ أَوْ الْمُصَالَحَةِ، كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ، وَلِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا فِي إيجَابِ غُرْمِ الْقِيمَةِ عَلَى مَنْ قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْحَاكِمِ، أَوْ فِي الْيَسِيرِ، كَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ كَمَا جَازَ التَّفَاضُلُ الْيَسِيرُ فِي الْمُرَاطَلَةِ، وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فِي الْيَسِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْنَى لَيْسَ فِي سُلُوكِهِ إبْطَالُ الْقَوَاعِدِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا جَرْيًا مُخْلِصًا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِهِ. ثُمَّ حَكَى كَلَامُ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ دَلِيلٍ يُعَارِضُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، حَتَّى كَانَ الْقِيَاسُ غَيْرَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، وَكَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِاسْتِحْسَانِهِمْ تَرْكَ الْقِيَاسِ أَوْ الْوُقُوفَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَوْقَهُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ أَوْ مِثْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ إلَّا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ قِيَاسًا، وَاَلَّذِي قَالَ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا كَمَا مَيَّزَ أَهْلُ النَّحْوِ بَيْنَ وُجُوهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute