وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَطْبَقَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ، أَعْنِي الْجَمْعَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ دَلِيلٍ، وَعَزَوْا ذَلِكَ إلَى تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ، كَقِرَاءَةِ " أَرْجُلَكُمْ " بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ، فَحَمَلُوا إحْدَاهُمَا عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ وَالْأُخْرَى عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ " يَطْهُرْنَ " وَ " يَطَّهَّرْنَ " إحْدَاهُمَا عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْعَشَرَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " فَقَالَ: إذَا تَعَارَضَ عَامَّانِ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي حَالَيْنِ اُسْتُعْمِلَا، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ وَكَذَا قَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": إذَا وَرَدَ مِثْلُ " اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ "، " لَا تَقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ، فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ، وَيَخُصُّ فِي الثَّانِي وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ: هُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا دَلِيلًا فِي تَخْصِيصِ التَّالِي، وَالثَّانِيَ فِي تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَهَذَا تَابَعَ فِيهِ الْقَاضِي، ثُمَّ قَالَ: وَكَأَنَّ الْفُقَهَاءَ رَأَوْا تَصَرُّفًا فِي الظَّوَاهِرِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا عَلَى تَعَارُضِهِمَا إلَّا أَنْ يَتَّجِهَ تَأْوِيلٌ وَيَنْتَصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَكَأَنَّ الْإِمَامَ ظَنَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَحَكَّمُونَ بِتَعْيِينِ صُورَةٍ مِنْ صُورَةٍ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ ثَابِتَةً وَهَذِهِ مُخْرَجَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ صَنِيعُهُمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَعَ الْإِمْكَانِ خَيْرٌ مِنْ التَّعْطِيلِ وَالْقَائِلُ بِالتَّعَارُضِ عَطَّلَهُمَا جَمِيعًا، وَالْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِبَعْضِ صُوَرِهِ عَمِلَ بِهِمَا جَمِيعًا حَسَبَ إمْكَانِهِ ثُمَّ لَهُمْ فِي التَّعْيِينِ طَرِيقَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صُوَرَ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ تَتَفَاوَتَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَتَعْيِينُ الْفُقَهَاءِ أَوْلَى الصُّوَرِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَيَّنُوا الْقِسْمَ الْآخَرَ لَزِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ ضَرُورَةَ أَنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْأَدْنَى يَقْتَضِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute