ثُبُوتَهُ فِي الْأَعْلَى، مِثَالُهُ: إذَا قَابَلْنَا بَيْنَ حَدِيثِ «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَعَ قَوْلِهِ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» كَانَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ الْجِزْيَةُ مِنْ أَحَدٍ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي قَبُولَهَا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَإِذَا حَمَلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى بَعْضِ صُوَرِهِ نَظَرْنَا فِي صُوَرِ الْكُفَّارِ وَجَدْنَاهَا قِسْمَيْنِ: كِتَابِيًّا وَغَيْرَ كِتَابِيٍّ، فَعَيَّنَّا الْكِتَابِيَّ لِلْجِزْيَةِ، وَغَيْرَهُ لِلسَّيْفِ وَلَيْسَ هَذَا احْتِكَامًا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّخْصِيصِ وَجَدْنَا الْكِتَابِيَّ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُسْتَبْقَى، إذْ لَهُ عَقِيدَةٌ مَا وَلِهَذَا أَجَازَ الشَّرْعُ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ دُونَ الْوَثَنِيَّاتِ، وَلِهَذَا لَمَّا نَشِبَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ فَارِسٍ، لِأَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ بِلَا كِتَابٍ فَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَيِّنُ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ الْإِثْبَاتِ مِنْ صُوَرِ الْإِخْرَاجِ، لَا بِالِاحْتِكَامِ وَبِذَلِكَ يَزُولُ عَنْهُمْ أَلْسِنَةُ الطَّاعِنِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْإِبْيَارِيِّ: تَخْصِيصُ الْعُمُومَيْنِ تَعْطِيلٌ لَهُمَا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: فِي الْجَمْعِ عَمَلٌ بِهِمَا فَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِمَا إذَا تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِهِمَا قُلْت: وَالتَّحْقِيقُ إنَّهُ إذَا لَمْ نَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا تَصَدَّى لَنَا الْإِلْغَاءُ وَالْجَمْعُ، وَالْأَلْيَقُ بِالشَّرْعِ الْجَمْعُ وَإِنْ وَجَدْنَا مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا فَالْمُتَعَلِّقُ هُوَ الْمُتَّبَعُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَلَى عُمُومِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَقَالَ: لَا يَقْضِي بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقَضَاءِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ «حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ يُعْطُوا» إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى إحْدَى خِلَالٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِذْ تَعَارَضَا رَجَعْنَا إلَى دَلَالَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: ٢٩] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute